صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
لعل أهم ما أفادتنا به وسائل الإعلام المسموعة والمرئية هو الأرشيف الموجود فيها والذي يقدم مادة مهمة من مواد التراث، وهذا الأرشيف يعتبر أهم مكتبة يمكن أن يلجأ إليها الباحث في هذا الموضوع ونستفيد منه بشكل كبير في التوثيق التراثي المنظم. وقبل هذا لم يكن لهذا الأرشيف وجودًا وبهذه المكتبات اليوم يمكننا البدء بالعمل في مجال حفظ التراث وتأصيله وحمايته.
ومع وصولنا لثورة الاتصالات والإنترنت نجد مواقع كثيرة على الشبكة العنكبوتية تقوم على تقديم الكثير من المواضيع المهتمة بالتراث وتوثيقه وهذا بحد ذاته شيء جميل خاصة ما قدمته من أعمال جليلة ونادرة ليتعمق عند الجيل حب فنون هي حاليًّا شبه غائبة عنهم خاصة وأنه جيل الكمبيوتر والإنترنت.
- لكن رغم ما قدمنا من إيجابيات إعلامية في مجال دعم التراث إلا أن الإعلام هو سلاح ذو حدين خاصة مع التطورات الأخيرة في وسائله وازدياد عددها والحاجة لملء ساعات البث فيها ودخولها مجال الاقتصاد بشكل أكبر من كونها مجالاً ثقافيًّا. ذلك أن الاستثمار طال الفضائيات والإذاعات الخاصة حتى العامة بل والإنترنت، فأصبح الموضوع هو الربح والمنافسة حتى على عقول وعيون المشاهدين المستمعين والقارئين والمتصفحين العرب، وغدت الحركة الإعلامية للإشهار التجاري العولمي، الذي يقوم على سلخ البشر من تاريخهم وجلودهم وسببًا في دعم إعلام يمكن أن يكون من أهم الوسائل لفقدان الهوية.
- الشق السلبي الثاني من الموضوع هو ابتعاد المتخصصين الحقيقيين في مجال التراث عن الإعلام أو إبعادهم كذلك ظهور البوادر الشخصية في العمل الإعلامي، فالمهم هو إظهار بعض الفئات وإلغاء بعضها، ذلك أن الإعلام ارتبط بشبكة من العلاقات الخاصة. والشخصيات الإعلامية تأثرت بفعل الصداقة أو بفعل المادة أو ما سمي بالسبق الصحفي فغدت جميع المواد التراثية التي تعرض من خلال هذه الوسائل الإعلامية المختلفة، أغلبها مواد أقل ما توصف باسم استهلاكية.
- مشكلة أخرى تظهر لدينا في هذا المجال أيضًا بعض هذه الوسائل الإعلامية، بل أغلبها متأثر إلى حد كبير بالشكل والأسلوب الغربي، وهذا ينطبق أيضًا على مواقع الإنترنت والتي وجد منها الجيد والسيئ في مجال التراث. وهنا الإشكالية هل جميع هذه المواقع المتخصصة تقدم المعلومة الصحيحة لمتصفحها؟ وكيف لنا أن نثق بها؟ ومن يقدم المعلومة فيها؟
كيف نقدم التراث في الإعلام؟
لأن قضية التراث هي قضية الإنسان المعاصر بحاجاته المتعدّدة، وقدراته وإمكاناته العلمية التي يطبّقها في بحثه لها، ومهما كان الماضي عظيماً، فالحاضر أعظم بمقوماته الراهنة وآفاقه المستقبلية. وحين نقدّم للأجيال الحالية صوراً من الاستلهام التراثي ننطلق من مرحلتنا نحن، بما يحيط بها من عمق إنساني. إننا نقدّم صورة التراث برؤيتنا وبتطلعاتنا الراهنة، من منطلق حب الوطن، وحب الحرية، وحب التطور والتقدم والحياة المعاصرة، وأصالة الشعب لم تعد مرهونة بالتشبّث بالماضي وحده، بل باستلهام الماضي من أجل الحاضر واستشراف آفاق المستقبل. إنّ تقديم التراث العربي لوارثيه يعني مدّ الجسور بين الحقائق التاريخية وامتداداتها التراثية اللاحقة، واختراق الحاضر إلى الغد المشرق. يقترن ذلك كلّه بعناصر التشويق والخيال المبدع، واستشراف الآتي، يحفز المتلقي إلى مزيد من التعمق في فهم التراث ومعرفة مبدعيه، واستلهام أعلامه ومتذوّقيه، وهذا يولّد ذوق جماليّ وأخلاقي، تتطاول فيه قامة المتلقي، ويحسّ به بالاعتداد بشخصيته، فهو الوريث الشرعي للتراث، الذي يحقّق تكامل شخصية، ويحقّق الحماسة العاطفية الوطنية لديه.
فالرؤية الجديدة واللغة الجديدة، تُغني التراث، تبعث الحياة فيه، تجعله دماً جديداً في شرايين الحاضر، ورافداً ثرّاً لنهر الغد الذي نرجو له أن لا يتجمد ولا يتوقف.
واللغة الجديدة هي الوسيلة التي تجعل من هذا التراث البعيد شيئاً قريباً مألوفاً، محبباً يعيش معنا، ويحمل تطلعاتنا وأحلامنا، إنّها سرّ التجديد ونحن نمدّ يدنا إلى التراث، نريد أن نتعرّفه ونبعثه من رقاده الطويل. ولابد من الإجادة في استخدام هذا الأثر التراثي من جانبه الإيجابي، وكذلك عدم إسقاط الجانب السلبي منه، حتى لا نجعل البطولة صفة إنسانية مطلقة فيما يؤلف في التراث من مواد، وأن ننتخب من التراث نماذج من حياة النّاس العاديين لا الملوك أو الأمراء أو علية القوم، وربط ذلك كلّه بالقضايا العادلة، كما لا بد أن نكفّ عن تصوير التاريخ التراثي على انه بطولة أفراد والاتجاه إلى اعتبار البطل من عطاء الأمة أو الجماعة.
والتراث العربي واسع عريض، فهو يحمل هويتنا، ويرسّخ القيم الإيجابية الصالحة لحياتنا وواقعنا ومستقبلنا لذلك يجب أن نحرص على أن نبرز كل جوانبه ونقتبس منها القصص والحكايات والأشعار والملاحم.
ومن حقنا على وسائل الإعلام أن تحيط بتراثنا العلمي والفكري فهذا في حد ذاته حق لنا عليها كأمه قدمت إلى مسيرة الحضارة البشرية أعظم الإسهامات. ونحن في الواقع بحاجة ماسة إلى هذه الإحاطة لأننا نجهل ماضينا. ولسنا أبداً - وعلى عكس كل ما يُشاع عنا أو نتهم به أنفسنا - أمه تعيش في الماضي! وليكن معلوماً أن من يقولون لنا ذلك يقولونه من باب الخداع والاحتيال علينا فهم لا يريدون أن نعرف ماضينا وان نشحذ نفوسنا بأمجاده استعدادا للانطلاق نحو المستقبل وهم - وياللمفارقة - يعلمون جيداً أن الأمم الغربية والكثير من أمم العالم تولي ماضيها أشد الاعتزاز برغم قزميته إذا ما قيس بماضينا وهم يعلمون أيضاً أن كثيراً من الأمم حين لا تجد ماضيها فإنها تختلقه. لأن الماضي دائماً هو جذور الحاضر وركيزة المستقبل!
إن وسائل الإعلام العربية بحاجة للوقوف أمام نفسها بوضوح وصراحة، لتحديد إستراتيجيتها، وهويتها التراثية، ومدى قدرتها على البقاء في «مرحلة الفرز الأولى» حتى لا تتحول إلى استثمارات في يد من يملك المال أي من أصبحوا أباطرة الإعلام الفضائي العربي.
ضرورة إعادة كتابة التراث وتحقيقه بما يتناسب والوسيلة
الإعلامية الحديثة
تبقي إشكالية كبري في التعامل مع التراث من قبل وسائل الإعلام الحديثة، فالتراث العربي كالتاريخ العربي بمصادرة القديمة التي كتبها كبار علماء العرب، فيها ذخيرة ضخمة من الأخبار والوقائع والروايات تصلح زاداً للباحث المتعمق المحقق ولكنها بصورتها الراهنة لا تصلح للقارئ المتعجل الذي يريد أن يجد الخلاصة الجاهزة ممحصة سهلة الاستيعاب سهلة الهضم ومن الأخبار والوقائع ما هو منحول أو مكذوب أو ثبت عند الرواة باستنتاجات خاطئة ثم صارت حقيقة واقعة. لذا فإن الدعوة لإعادة كتابة أو عرض وتحليل التراث العربي اليوم شيء مهم لا يجب أن نتثاقل عنه وهذه الإعادة لا تعني بالضرورة البدء من نقطة الصفر أو الرفض المطلق للصيغ التي قدمها المؤرِّخون ومحاولة قلب معطياتهم رأساً على عقب ومن يخطر على باله أمر كهذا فهو ليس من العلم في شيء والمقصود شيء آخر مختلف بالكلية منهج - عدل - يتعامل مع معطيات الأجداد بروح عمليه مخلصة فيتقبل ما يمكن تقبله ويرفض ما لا يحتمل القبول ويقدر عطاء الرواد حق قدرة دون أن يثنيه ذلك عن متابعة آخر المعطيات المنهجية والموضوعية التي يطلع علينا بها العصر الحديث وأشدها صرامة. موقف وسط يرفض الاستسلام للرواية القديمة ويأبى إلغائها المجاني من الحساب.
فالتراث ليس شيئاً يكتب مرة واحدة ولكنه مادة تكتب مئات المرات وتعاد كتابتها باستمرار سواء بسبب ظهور معلومات مستجدة عن أي صفحة من الصفحات التراث أو بسبب تطور في مذاهب التراث وفلسفاته وظهور أدوات محقق يجد في نفسه القدرة والرغبة على أن يدلي بدلوه في التعرض لموضوع ما من موضوعات التراث، فكتابة التراث إذن - تراث فرد أو أمه أو عالم - عملية بطبيعتها متجددة وكذلك التراث ليس شيئاً تكتبه جهة واحدة فليس هناك فرد ولا جهة ولا دولة ولا مجموعة دول تحتكر كتابة التراث حتى ولو كان تراثها.
فالحكايات والشائعات التراثية الكاذبة تتسبب في الكثير من اللبس والارتباك بحيث يراها البعض أنها تزوير لهذا التراث، إذ إن هناك حالات يتم فيها اختلاق نوع من الحكاية والترويج لها على أنها تراث حقيقي، يقوم من يعتمدون هذا النمط بكتابة حكاية ما على يد أحد الكتَّاب من دون سند تراثي حقيقي، ثم تتوالى الحكاية في كتابات تالية تتم الإشارة إلي أول من كتبها باعتباره مرجعاً، وفي خضم هذا السرد المتتالي، الذي يحيل بعضه إلى بعض في ما يشبه التأكيد، تختفي حقيقة اختلاق الرواية التراثية.
وإعادة كتابة التراث من هذا المنطلق لها ميزة مهمة، حيث تسهل عمل المعد غير المتخصص في وسائل الإعلام الحديثة على أن يقدم مادة تراثية لجمهوره المهتم وهو على يقين من أنه يقدم مادة صادقة أجمع عليها وعلى صدقها نخبة من خبراء كتابة التراث والمحققين.
وفي الختام من واقع التجربة السنغافورية في إحياء التراث
في بداية الحراك التجاري - أصبحت موائي سنغافورة تستقبل الآلاف من السفن التجارية وحاويات النقل البحري متفوقة على أشهر موانئ الولايات المتحدة الأمريكية - أعادت الحكومة السنغافورية صياغة المناهج الدراسية التراثية، فحولتها جميعاً إلى اللغة الإنجليزية - لدرجة إلغائها لوزارة الثقافة- اعتقاداً منها بأن هذه الأمركة تتماشى مع روح الاستثمار والتصدير والتفوق التجاري وإهمال لغتهم الأم. ولكنهم علموا جرمهم عندما اكتشفوا أنهم خلقوا عملاقاً بلا روح، لذا عادت الحكومة لدعم مناهج الأدب والتراث السنغافوري، حيث لا حاضر ولا مستقبل لمن لا تراث ولا ثقافة له.