د.عبدالله بن موسى الطاير
يطول الليل في معاقرة الألم حتى يخيل للموجوعين أنها ألف ليلة مما يعدون، وتنقضي ليالي الراحة سريعاً، وكأنها دقائق معدودة. الليل في حالة الألم والراحة لم يتغير طوله، إلا أن إحساسنا به هو الذي تغير لأسباب وأوجاع جسدية أو نفسية. فلحظات الألم تتسع وتطول وعندما تلوح نهاياتها في الأفق يولد فجر من الأمل، ولحظات السعادة والراحة والأنس تقصر لدرجة تباغتنا معها خيوط الصباح بمس من الحزن يغشى النفوس. تقابل صارخ، بين نهاية تنبثق عن أمل، وأخرى تتنفس الحزن، وهذا البون الشاسع هو المسافة ذاتها بين الألم والأمل.
ويزداد الوضع دهشة عندما ترفع أكف الضراعة راجياً أن ينكشف عنك ليل الألم، وبالقدر الذي تتوق للاستجابة، ينتابك الخوف من ذلك الأمل الذي تحمله خيوط الشمس، فتنكفئ كأهل الأعراف عين على الأمل وأخرى تذرف الألم. اجتمعت هذه الصورة عند الشاعر السوداني الكبير الهادي آدم في قصيدته أغداً ألقاك:
آه، كم أخشى غدي هذا وأرجوه إقترابا
كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابَ
وأهلّت فرحة القرب به حين استجابَ
هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا
مهجةً حرة، وقلباً مسَّه الشوق فذابا
ربما يتصور قوم أن بعض الألم ترف، فليل العاشق الطويل المترع بالآهات والدموع، ليس كآخر يتجرع فيه مريض وخز الألم الذي يجتمع عليه في ليله البهيم الخالي من كل شيء سوى الإحساس بالمرض، كليل المتنبي مع الملاريا:
وَزَائِرَتي كَأنّ بهَا حَيَاءً
فَلَيسَ تَزُورُ إلاّ في الظّلامِ
بَذَلْتُ لهَا المَطَارِفَ وَالحَشَايَا
فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ في عِظامي
يَضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسي وَعَنها
فَتُوسِعُهُ بِأنْوَاعِ السّقَامِ
وليس من الإنصاف اعتبار ألم المرض الجسدي ووجعه هو الألم الحقيقي في مقابل تجاهل الألم النفسي الذي يتجرعه أصحابه في ليلهم الطويل على أنه نوع من الترف أو الألم المختار. تشير بعض الدراسات العلمية إلى أن الألم النفسي أو العاطفي أعلى بدرجات من الألم الناتج عن مسببات جسدية، وديمومة الألم العاطفي وتكراره يفوق ذلك الجسدي. ولذلك فليس من الإنصاف تجاهل آلام الآخرين أو التقليل من وجعها بسبب عدم رؤيتها أو إمكانية تخيلنا لها، بينما نتعاطف مع تلك الناجمة عن مرض الأعضاء الجسدية أو إصابتها.
وفي رواية الأصمعي، تدرج الألم العاطفي بصاحبه حتى طرح جسمه صريعاً عاطفته.
يقول: بينما كنت أسير في البادية، إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشاق بالله خبِّروا
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنعُ
فكتب الأصمعي تحته البيت التالي:
يداري هواه ثم يكتم سرَّه
ويخشع في كل الأمور ويخضعُ
وعاد الأصمعي في اليوم التالي فوجد مكتوباً تحته هذا البيت:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطعُ
فكتب الأصمعي البيت التالي:
إذا لم يجد صبرًا لكتمان سرِّه
فليس له شيء سوى الموت ينفعُ
يقول الأصمعي: فعدت في اليوم الثالث، فوجدت شابّاً ملقىً تحت ذلك الحجر ميتاً، ومكتوبٌ تحته هذان البيتان:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلِّغوا
سلامي إلى من كان بالوصل يمنعُ
هنيئًا لأرباب النعيم نعيمهمْ
وللعاشق المسكين ما يتجرعُ
المشكل أن بعض الموجوعين نفسياً وعاطفياً يستمرؤون الألم دون أن يسعوا في تطبيبه، بينما يقتضي الحال شمول الرعاية الصحية بالاهتمام نفسه الذي نحيط به الصحة الجسدية، بالكدمات التي تصيب الجسم، أو الفيروسات والالتهابات التي تنهشه لا تزيد في خطورتها على الفرد من تلك الإصابات النفسية والعاطفية التي تصيب أحدنا مثل الفشل، والرفض، الشعور بالوحدة أو الذنب، وغيرها من الاضطرابات النفسية.
يقول خليل مردم بيك في مناجاة ليلاه:
من سهادٍ واشتياقٍ وَجوى
كاد يودي بي وَدمع منهمر
لو تريني ساهراً أشكو الهوى
رقَّ منك القلبُ لو كان حجر
إنَّ هذا بعض ما قاسيته
والذي أكتم أدهى وَأَمرّْ
وإذا كان خليل مردم بيك قد وجد ما أضناه وطال به سهره على ليلاه، فإن غازي القصيبي على النقيض هدّه المرض وأعياه الألم الجسدي فقال في فراش المرض أصدق ما يقوله الموجوع:
أغالب الليل الحزين الطويل
أغالب الداء المقيم الوبيل
أغالب الآلام مهما طغت
بحسبي الله ونعم الوكيل
فحسبي الله قبيل الشروق
وحسبي الله بُعيد الأصيل
وحسبي الله إذا رضني
بصدره المشؤوم همي الثقيل
وحسبي الله إذا أسبلت
دموعها عين الفقير العليل