حسن اليمني
حينما قرأت مقال الأستاذ خالد المالك بهذه الجريدة بعنوان (العالم يغلي) وجدت مضمون المقال يبدو كصوت إنسان أرعبه مشهد البصر, لكن ألا يمكن أن نستشف في ثنايا هذا الرعب فرصًا إيجابية طالما ينتقل العالم اليوم من القضايا الإقليمية في جلباب الحرب الباردة إلى سن الرماح بين الأقوياء مباشرة للسيطرة على العالم؟
النظام العالمي الذي انحني إلى الأسفل منذ شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على العالم بحجة محاربة الإرهاب والثأر من التجريء على عظمة سيدة العالم، وسط خضوع تام من كل أطراف العالم وعجز واضح من روسيا والصين والعالم كله، أظهره الركض والهرولة للتبرؤ من الإرهاب والاستعداد لمحاربته مع سيدة العالم حتى وإن كان على حساب الإرادة والاستقلال السيادي، منذ بدء مسار هذا الانحناء والعالم يغلي فوق بركان ينذر بدورة انقلاب حتمية في مسار النظام العالمي نحو عالم آن له أن يتشكل.
على مر التاريخ منذ الأزل لم تسيطر إمبراطورية على العالم وتحكمه بقواعد ثقافتها وأيدولوجيتها إلا بعد أن قهرت القوى الأخرى وأخضعتها، واليوم وقد بان خط الانحناء للأسفل لأقوى قوة في العالم، وفي مقابل ذلك صعود لنزعة الخروج والتمرد من قوى ضاقت ذرعًا بعبثية النظام العالمي وحيد القطب أو القرن أن شئت، الكبار المنافسين يسعون لاستعادة صوتهم ورسم بصمتهم في إدارة العالم بينما وجدت دول العالم الأخرى متوسطة وضعيفة القوة نفسها أمام مرحلة ارتجاج مخاض يهز كيان استقرارها وأمنها، ليصبح العالم كله وسط رحى يطحن قواعد الحاضر وأسسه ليتولد عصر جديد ونظام عالمي مختلف.
كل شيء مهيأ للاستخدام بين صخرتي الرحى التي تجرش العوائق الصلبة واللينة دون رحمة، العقائد والثقافات والثروات وهي ثلاثية القوة الحقيقة للبقاء في كنف القوة العسكرية المهيمنة صارت قابلة للصرف مقابل درء خطورة المواقف الحيادية، ولا يدرك ذلك أو يراه إلا من يمتلك القدرة الحقيقية في رؤية دوافع الأحداث بشكل أدق وبمعطيات واضحة، لهذا نجد أن مسافة تظهر بين وعي الشعوب وحكوماتها في فهم ما يجري بما لم يعتد عليه أو لم يكن متوقعًا وهو ما يدفع لصناعة الفوضى في بعض البلدان ويدخلها بين أضراس وأنياب الصراع بين القوى العظمى فيسحقها ويشتت جمعها ويبعثر أمنها واستقلالها.
من الجنون التفكير أن عودة للوراء قابلة للاحتمال، لن تتراجع موسكو عن حقها كما تراه في إعادة مكانتها ودورها القيادي في العالم، ولن تتراجع بكين عن حقها كما تراه في استعادة ذاتها وحدودها وتحقيق طموحاتها لخلق مكانة ودور قيادي لها في العالم، ولن تتراجع واشنطن عن زعامتها وهيمنة نظامها العالمي على العالم، ولن تتراجع الدول الناشئة والطامحة في الصعود لتحرير إرادتها لتقف على قدميها، ولن تقوى دول الارتهان للقوى المهيمنة من تفادي مخاطر نتائج ما يجري، هذه طبيعة الغليان الذي يدور في العالم اليوم.
وبعد كل هذا فلابد من الاستعانة بالمنطق الطبيعي لدورة العصور ومنهج التاريخ الذي لا يتغير بحكم أن الفاعل في حركته منذ بدء التاريخ وحتى قيام الساعة هو الإنسان ذاته، وبناء على ذلك نستطيع أن ندرك مرحلة الراهن كدورة مخاض تنقلنا من عصر لعصر آخر، وعلى هذا قد يبدو أن لا مفر من احتمال حرب عالمية ثالثة تدمر صورة وتبني صورة أخرى مكانها، هذا الاحتمال الأكثر ظهور في الأفق المسدود، لكن حسم هذه الحرب بحكم امتلاك دول الصراع أسلحة قادرة على محو كل من على الأرض من البشر والحيوان والنبات هو في الحقيقة حالة انتحار جماعي للبشر، هذا أمر غير عقلاني ولا منطقي فيكون الاحتمال الأقرب هو في مرحلة مخاض طويلة الأجل وبالتالي إرهاصاتها وآثارها على العالم توصلها إلى لك وعجن الدول الصغيرة والضعيفة تماما كحال صراع الغاب بين الوحوش المفترسة، القوي يلتهم الضعيف، وهنا مكمن الخطر الحقيقي علينا في العالم الخلفي.
من وجه آخر ومع استمرار الاستعانة بالمنطق الطبيعي لدورة العصور ومنهج التاريخ كما ذكرت أعلاه فإن دورة المخاض التي نعيشها راهن الوقت يمكن أن نرى في جانبها الآخر فرصة مثالية لصعود قوى من الوسط إلى الأعلى لتدخل في عرقلة وتبطئ مسار المخاض أيضًا تحت احتمال استبعاد الحسم النووي، وهو فعليًا قائم ومشاهد لدول في الدرجات الخلفية تتجه بشكل سريع نحو الأمام في التصنيع وتمتين الاقتصاد وترقية التقنية وتثبيت دعائم هذا المسار بالنظم والتقنين من جهة واستثمار الصراع بين القوى الكبرى لكسب مزيد من القوة في الإرادة والاستقلال، هذه الدول هي أمل البشرية في الخروج من هذا المخاض بأقل الخسائر الممكنة وخاصة استخدام أسلحة الهلاك الجمعي للبشر، فهي -أي هذه الدول- مطمع جذب للقوى المتصارعة ما يبعدها عن الأخطار المباشرة وبذات الوقت يمنحها امتيازات ومكاسب أثمان سياسة تدعم تنمية قدراتها من واقع محاولات الكسب والجذب هذه، على أن توافق هذه الدول متوسطة القوى متجانسة الطموح فيما بينها هو نقطة الارتكاز الذي يبنى عليها تحديد مصير العالم لو تم، لكن هذا التوافق والتوحد فيما بين هذه الدول خط أحمر لدول الصراع الأقوى يتحدون على رفض تجاوزه من الآخرين رغم الصراع الدموي فيما بينهم.
العالم يغلي.. صحيح لكن وضع الثلج في ماء يغلي يزيد كمية الماء ويصعد غليانه، والخطورة تكمن في الانزلاق في خضم الصراع بالانحياز لهذا الجانب أو ذاك، بل استثمار هذا الغليان في صناعة قوة وبناء تحالفات خارج صراع القوى المتطاحنة لبناء جدار صد يحمي ويؤمن مزيد من الوقت لاستثماره في بناء قوة تُصعِب مواجهته لها، وتقف ند تعيده للصواب رغم أنفه، فالعدل دائمًا يوجد بين الأقوياء وليس بين قوي وضعيف، هذه هي الحقيقة في عالم مجنون يطحن بعضه بعضًا، وكأن الأرض ليس فيها متسع للجميع.