عبدالرحمن الحبيب
كانت أسعار الأغذية الرئيسية في العالم مرتفعة لمستوى قياسي حتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية بسبب ارتفاع كلفة الأسمدة (خاصة اليوريا) نتيجة ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي (أحد مدخلات إنتاج اليوريا)، فسببت الحرب توقعات بتفاقم أزمة غذاء عالمية غير مسبوقة، لكن عادت الأسعار إلى مستواها التي كانت عليه قبل الحرب، بل إن بعضها انخفض إلى أقل من ذلك. وبشكل عام انخفض مؤشر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) لأسعار الغذاء العالمية للشهر الخامس على التوالي في أغسطس، كيف ولماذا؟ أبحث عن تغير المناخ!
بداية، يرجع ذلك لعوامل عدة متشابكة زراعية ونفسية ومناخية واقتصادية فضلاً عن انفراج تصدير الحبوب الأوكرانية التي لا تعد سبباً رئيسياً وإن كان الأشهر إعلامياً وسياسياً وبالتالي نفسياً مما كان له دور تضخيمي في المبالغة بالتخوف من نقص عالمي في محاصيل الأغذية الرئيسية.
على المستوى الزراعي حصل اعتدال في تكلفة الأسمدة النيتروجينية، فسعر اليوريا هبط الشهر الماضي إلى 680 دولارًا للطن من 955 دولارًا بمنتصف أبريل، لكنه لا يزال أعلى من 400 دولار للعام الماضي. وعلى المستوى الاقتصادي، هبطت قبل شهر العقود الآجلة للقمح في شيكاغو إلى 7.70 دولار للبوشل (35 لترًا، 27.2 كجم) مقارنة بـ 12.79 دولارًا قبل ثلاثة أشهر. كما عادت الذرة إلى سعرها قبل الحرب، بينما انخفض زيت النخيل ليس فقط إلى سعره قبل الحرب، ولكن إلى أقل منه. فما تفسير ذلك؟
صحيح أن السماح لصادرات الحبوب الأوكرانية يفسر جزئياً عودة الأسعار لمستواها قبل الحرب، لأن روسيا وأوكرانيا من أكبر المصدرين للحبوب والزيوت النباتية، لكن هناك عامل مؤثر لم يكن يؤخذ بالحسبان وهو تغير المناخ. وهنا، تشير وزارة الزراعة الأمريكية إلى أن المزارع الروسية ستصدر من القمح 38 مليون طن هذا الموسم، أي أكثر بحوالي مليوني من العام السابق. هذا المحصول الوافر يرجع جزئيًا إلى الطقس الجيد في وقت سابق من هذا العام، والأمر ذاته بالنسبة للقمح في أمريكا الشمالية حسب رويترز.
تشير العديد من الدراسات أن تغير المناخ خاصة الاحتباس الحراري يؤدي إلى توسع المحاصيل نحو الشمال والعكس بالنسبة للجنوب، فمنذ العام الماضي بدأت الحكومة الروسية في الاستثمار الزراعي في أقصى شرق البلاد بأراضي كانت غير منتجة سابقاً.. وفي كندا بمقاطعة تقع في الطرف الشمالي الشرقي، يتم تعزيز التوسع الزراعي بالأراضي التي تغطيها الغابات.. وفي الصين توسعت المناطق التي يتم فيها حصاد الأرز شمالًا، وتحرك العنب ومحاصيل الفاكهة إلى الشمال.. في أمريكا انتشر إنتاج الذرة من الجنوب الشرقي إلى الغرب الأوسط الشمالي، وانتقل القمح بشكل كبير إلى الشمال..
في الوقت الحالي، فإن حوالي ثلث المناطق الشمالية في العالم - وهي تتميز بالغابات الصنوبرية وتغطي مساحات شاسعة من الأرض جنوب الدائرة القطبية الشمالية- صارت تتميز بدرجات حرارة تكفي لزراعة أصعب الحبوب التي تتحمّل البرودة الشديدة، مثل الشوفان والشعير. وقد تزيد حصة الأراضي الشمالية التي يمكن أن تدعم الزراعة من 8 % إلى 41 % في السويد، ومن 51 % إلى 83 % في فنلندا، وفقًا لدراسة نُشرت في 2018 في مجلة Scientific Reports.
إذا كانت هذه أخبار جيدة للمناطق الشمالية من الكرة الأرضية، فهذه أخبار سيئة بشكل خاص لمنتجي الأغذية في الأماكن الدافئة، مثل المناطق الاستوائية.. وسبق أن أشارت دراسة من جامعة كورنيل إلى أن تغير المناخ أدى إلى إبطاء نمو الإنتاجية الزراعية بنحو الخمس، وأن الأجواء المعاكسة الناجمة عن تغير المناخ ستصبح أقوى، كما وجدت الدراسة أن حساسية الإنتاجية الزراعية تزداد مع ارتفاع درجات الحرارة؛ وأن كل كسر عشري إضافي من الدرجة يكون أكثر ضررًا لإنتاج الغذاء. وتتوقع دراسة أخرى أنه مقابل كل درجة ترتفع فيها الحرارة العالمية، سينخفض متوسط غلات الذرة بنسبة 7.4 %، وستنخفض غلة القمح بنسبة 6 %، وستنخفض غلات الأرز بنسبة 3.2 %. هذه المحاصيل الثلاثة توفر حوالي ثلثي السعرات الحرارية التي يستهلكها الإنسان.
ما هي محصلة كل ذلك على وفرة الغذاء العالمي؟ تغير المناخ (ارتفاع الحرارة) يمكنه جعل أراض كانت متجمدة غير منتجة إلى أراض قابلة للزراعة، لكن بالمقابل يمكنه إلحاق ضرر كبير بأراضي المناطق الدافئة التي تطعم الملايين. علاوة على ذلك، فإنه سيغير أنماط هطول الأمطار، وهذا لن يفيد بالضرورة التوسع بالزراعة في المناخات الشمالية، إذ قد ينتهي الأمر بها إلى مواجهة نقص المياه، وانتشار الحشرات ومسببات الأمراض التي يقضي عليها الشتاء القارص. كما أن زيادة الحرارة قد تأتي بنتائج عكسية حتى في المناطق الشمالية، فقد أظهر مؤشر أسعار الذرة ارتفعاً بنسبة 1.5 % الشهر الماضي، بعدما قاد الطقس الحار الجاف لخفض توقعات الإنتاج في أوروبا والولايات المتحدة؛ ومن المنتظر أن يتقلص إنتاج الاتحاد الأوروبي من الذرة بنسبة 16 % عن المتوسط لخمس سنوات حسب الفاو. المحصلة النهائية أن ارتفاع الحرارة والجفاف سيؤثر في معظم أنحاء العالم على غلة المحاصيل، وقد تكون هناك مفاجآت غير سارة على وفرة الغذاء.