صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
مفهوم التراث
التراث كلمة واسعة معنى ودلالة، فالتراث مجموعة التجارب الإنسانية المتراكمة، فتراث وثقافة أمة ما، هو نتاج صيرورة تاريخية ومادية تشمل البنى التحتية (المادية) والبنى الفوقية (الرمزية، الأخلاقية) فالتراث مجموعة من المنجزات المادية والعلمية والفلسفية والأدبية والفنية، التي أنجزها السلف على امتداد الزمان والمكان، وأضحت ودائع بين أيدي الخلف، وهذا التراث هو الذي يوحد هوية الأمة.
والتراث لغة: هو ما تركه السلف للخلف فورثه عنه. ورث: الواو والراء والثاء: كلمة واحدة هي الورث. والميراث أصله الواو.
وهو أن يكون الشيء لقوم ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب.
قال عمرو بن كلثوم:
ورثناهن عن أباء صدق
ونورثها إذا متنا بنينا
وتقاس حضارة الأمم وعراقتها بما تمتلك من تراث إنساني، توارثه الأبناء عن الآباء جيلاً بعد جيل معتزين بما تركه لهم الأجداد وقيمة التراث أو الأصالة أو الحضارة تظهر ملامحها وتتميز مواصفاتها كلما كانت هذه الحضارات متميزة متفردة في خدمة الإنسانية بل تعتبر هوية الفرد إزاء الآخر.
وأهمية التراث أنه يلقي الضوء على حياة الأفراد لما يمتلكون من فكر وعقيدة وفلسفة وفنون وآداب وبالتالي تظهر صورة الشعوب والأمم من خلال ما يملكون من إرث ثقافي أو مهني أو فني، والإعلام في هذا العصر هو المسؤول عن إعادة الثقافة العربية وتراثها إلى الأسماع، و توضيح مخاطر (الاختراق الثقافي) على الإرث العربي. وعلى الرغم من أن محاولات اختراق الإرث العربي قديمة لكن التصعيد الكبير من قبل العولمة ينبىء بخطر كبير وأزمة متفاقمة تهدد التراث العربي.
والحقيقة إن طريقة العرب في التعامل مع تراثهم هي واحدة من أخطر مشكلات ثقافتنا العربية المعاصرة. فربما كان تراثنا أعرق وأطول وأثقل مما ينبغي، ولكننا نتعامل معه بخفة وتسطيح أكثر مما ينبغي، فنحن نقحمه في كل شيء ونستند إليه في كل شيء فتجدنا نستخدمه مرة لبث الأمل في قرب نهضتنا وتسلمنا قصب السبق والتفوق على بقية الأمم، ثم نستخدمه مرة أخرى لبث اليأس والإحباط والتأكيد على أن التخلف سمة قارة فينا لا مبدل لها. بل إن كُتاباً وإعلاميين كثيرين يتأرجحون بين هذين الاستخدامين المتناقضين في المقال نفسه الذي يسطرونه بل ومرات في الصفحة ذاتها من مقال واحد. وهذا خفة وتسطيح في تناول التراث العربي من قبل وسائل الإعلام الحديثة غير المتخصصة.
فالتراث العربي صالح لنهضة عربية حديثة، فالعرب وحدهم عرفوا المنهجية العلمية والتقنية التي ارتكز عليهما علماء أوروبا، بعد عصر النهضة. وعلى سبيل المثال كانت معلومات الجغرافي الفذّ عبدالله البكري القرطبي هي الأسس التي بنى عليها كريستوف كولومبس رحلاته واكتشافاته ولنسأل أنفسنا: من منّا يعرف أبا عبيد عبدالله البكري القرطبي أكثر من كولومبس، وقد كان ابن حضارتنا المتكاملة التي تركناها في الأندلس!؟ إنّ التراث كائن حي، يعيش في أعماقنا، إنّه منّا ونحن منه، هو حصيلة جهود الأفذاذ والمبدعين، في الماضي والحاضر، لأنّه يمثّل ماضي هؤلاء ممتدّاً إلى الحاضر، ومتداخلاً فيه. وأسلافنا. وإن ماتوا جسدياً فإنّهم لا يزالون يعايشوننا، ويتدخّلون في حياتنا من خلال الموروث النفسي والماديّ والثقافي الذي تركوه لنا.
إن المتغيرات التي واجهت الفكر العربي، لاسيما في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، نما فيها مشروع النهضة العربية تحت وطأة الاستعمار الغربي الجاثم على صدر الأمة العربية، وهذا الاستعمار استخدم كل الوسائل التي تُمكنه من إخضاع البلدان المستضعفة لها ومن تلك الوسائل الإعلام الموجه نحو المُستعمَرين.
وعلى الجانب الآخر استخدم أصحاب المشروع النهضوى نفس الوسائل الإعلامية الحديثة بوصف قضية التراث القضية المركزية التي يجب الاهتمام بها لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيد المحلي والعالمي ودرء خطر المُستعمر بثقافته وتراثه المزعوم.
التراث والخطاب الإعلامي، أزمة وحلول
إن أزمة التراث العربي والخطاب الإعلامي هي نتيجة لوسائل المعرفة المصدرة لنا عبر وسائل الاتصال الحديثة (السلطة غير المباشرة على العقول) أو سياسة العولمة، التي تبغي توحيد رغبة الناس على نمط معين من العيش، والتي تروم فيه إزالة ثوابت الأمم المختلفة. والاتصال يشمل المحطات التلفزيونية عبر الأقمار الصناعية وشبكات الإنترنت، وأن أصحاب هذه التقنية ليسوا أمماً تمتلك عقائد وتراثاً مثل عقائدنا وتراثنا بل لها معتقدات وقيم مخالفة لنا وتروج لثقافتها كما تروج لبضاعتها، فالمعرفة أصبحت في ظل الوسائل الحديثة، تقتحم كل القيود الموروثة والمكتسبة، فالدول الكبرى صاحبة القرار في العالم، أخذت تعرض مفاهيم ووسائل ثقافية تبغي توحيد الرغبة وأنماط الاستهلاك في الذوق والمأكل والملبس مع توحيد طريقة التفكير وهذا يخالف ثوابت الأمم وتراثها.
وبلداننا العربية (مع ما قدمته للعالم في سبيل بناء حضارته العصرية) يسمونها العالم الثالث، ويتمنون أن يكون من الطبيعي (غالباً حسب ما يقدمون لنا في وسائل إعلامهم) أن يُفضل الفرد منها الحياة الغربية، وأن يتقبل ثقافة الآخر (الذين هم) المالك للإعلام الوافد لنا، بما يقدمه من إغراءات، فمع وجود الخطاب الإعلامي المثير للغرائز، ووجود تدهور في أوضاع الشباب (خصوصاً) يتم تخريب صلة الفرد بالمجتمع، ولا سيما أن المرء مولع بتقليد من يمتلك الوسائل الإعلامية المؤثرة.
أما سبيل حماية التراث فتكون من خلال توعية الأجيال الحالية والقادمة بالتأكيد على أهمية ميزات التراث الحضاري العربي، ومن ثم مجابهة تيار العولمة على الحضارة العربية بكل إمكانيات التقنية الحديثة المتوفرة في إيصال المعلومة إلى جميع أنحاء العالم عبر الإنترنت والبث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية، ونشر ذلك بكل الوسائل الإعلامية المتاحة المرئية والمقروءة والمسموعة، ونشر الوعي بسلبيات إلغاء الانتماء التراثي، من حيث إغفال القيم العربية، والفراغ الروحي، والشذوذ الأخلاقي والإدمان على المخدرات وحالات الانتحار، والفراغ من التراث والتاريخ، وهذا لا يعني القطيعة ورفض النافع في الصناعة والتجارة والفكر أيضاً، ولكن التمييز بين ما هو نافع وما هو غير نافع مع الاعتزاز بالتراث العربي الأصيل.
والسؤال الأهم ما هو دور وسائل الإعلام في موضوع حماية التراث بكافة أشكاله؟ وهل جاء الإعلام رديفًا وداعمًا للتراث؟ أم على العكس ساعد على دعم العولمة وإلغاء الهوية؟
في الواقع الإجابة عن هذه الأسئلة تأتي بشقين:
إحداهما إيجابي والآخر سلبي، فقد استطاعت وسائل الإعلام منذ نشوئها أن تكون داعمًا للتراث في بعض الأحيان بشكل كبير، واستطاع المهتمون به من خلالها الانتقال بالمواد التراثية من المخطوط إلى المطبوع ومن الشفاهية إلى التوثيق، وهذا يعتبر نقلة هامة في تاريخ الحفاظ على التراث العربي.
فمن خلال وسائل الإعلام قُدمت مواد تراثية فنية هامة ساعدت الباحثين في مجال التراث بعملهم كمؤرخين للتراث وموثقين له. أهم هذه الوسائل مجلات وجرائد قدمت صفحات ثقافية كتب فيها متخصصون في المجال التراثي استطاعوا بكتاباتهم تقديم صورة الملامح الجمالية والعلمية في هذا التراث، وأعطوا للجمهور فكرة عن كيفية الاحتفاظ بأنماطه التراثية التي تحافظ على الهوية بأسلوب يقظ - مفكر - في محاولة لتعميق إحساس الجماهير بأهمية التراث، كذلك كان هناك نوع آخر من الإعلاميين غير المتخصصين حملوا أعباء العمل الإعلامي وجدنا بكتاباتهم وبرامجهم مادة جيدة لتوعية الناس عن أهمية التراث ونقلوا إشكاليات الواقع الراهن وخطر فقدان الهوية الثقافية وضياعها وما يقع من ذلك.
من جهة ثانية كانت وسائل الإعلام المسموع والمرئي منذ بداياتها تحاول أن لا تقدم إلاّ النماذج التراثية الرسمية- بعيداً عن التراث الشعبي- وجميعها كانت مواد خاضعة لرقابة وآراء المتخصصين، وفي بعض الأحيان كانت هناك مهرجانات وبرامج وندوات وسهرات خاصة بالتراث والأعمال التراثية الخالدة الهامة تكتسب الصفة الثقافية الراقية وتحث على توعية الجمهور بأهمية وأصول ثقافته العريقة.
... يتبع
** **
salahalshehawy@yahoo.com