حمّاد بن حامد السالمي
* من هو هذا الطائفي..؟ ومن هو كسرى..؟
* الطائفي- نسبة إلى الطائف المدينة العربية العريقة على مر التاريخ- غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف بن منبة بن بكر بن هوازن الثقفي. صحابي جليل. أسلم في السنة الثامنة من الهجرة، وشهد حجة الوداع، هو: غيلان بن سلمة الثقفي. أمه: سبيعة بنت عبد شمس من قريش الكنانية. كان غيلان شريفًا مقدمًا في قومة. وكان من حكام العرب في الجاهلية، وعده ابن حبيب في أشراف المعلمين، وذَكَرَة حكام العرب، ضمن أربعة أشراف من قيس، وقال: كان يجلس في أيام المواسم، فيحكم بين الناس يومًا، وينشد شعره يومًا، وينظرون إلى وجهه يومًا.
* أما (كسرى أنو شروان)؛ فهو كسرى الأول، الذي يمثّل الملك الفيلسوف في الإمبراطورية الساسانية بعد صعوده العرش، ويعتبر عهده، أحد أنجح العهود ضمن الإمبراطورية الساسانية. ولد في منطلق القرن السادس الميلادي، وتوفي سنة 579م.
* مما جاء في كتب التراث؛ أنه خرج أبو سفيان بن حرب في جماعة من قريش وثقيف؛ يريدون العراق بتجارة، فلما ساروا ثلاثًا؛ جمعهم أبو سفيان فقال لهم: إنا من مسيرنا هذا لعلى خطر، ما قدومنا على ملك جبارٍ لم يأذن لنا في القدوم عليه، وليست بلاده لنا بمتجر..؟ ولكن أيكم يذهب بالعير..؟ فإن أصيب؛ فنحن برآء من دمه، وإن غنم، فله نصف الربح..؟ فقال غيلان بن سلمة الثقفي: دعوني إذن، فأنا لها. فدخل الوادي، فجعل يطوفه ويضرب فروع الشجر ويقول:
ولو يراني أبو غيلان إذ حُسرت
عني الهمومُ بأمرٍ ما لهُ طبقُ
لقال رُهبا ورُعبًا يُجمعان معًا
غُنمُ الحياةِ وهولُ النفس والشفق
إما تُسف على مجدٍ ومكرُمة
أو أسوة فيمن تهلك الورقُ
* ثم قال: أنا صاحبكم. ثم خرج في العير، وكان أبيض طويلًا جعدًا ضخمًا، فلما قدم بلاد كسرى، تخلّق، ولبس ثوبين أصفرين، وشهر أمره، وجلس بباب كسرى حتى أذن له، فدخل عليه وبينهما شباكٌ من ذهب، فخرج إليه الترجمان، وقال له: يقول لك الملك: من أدخلك بلادي بغير إذني..؟ فقال: قل له: لست من أهل عداوةٍ لك، ولا أتيتك جاسوسًا لضد من أضدادك، وإنما جئت بتجارةٍ تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك، وإن لم تردها وأذنت في بيعها لرعيتك بعتها، وإن لم تأذن في ذلك رددتها. قال: فإنه ليتكلم؛ إذ سمع صوت كسرى فسجد، فقال له الترجمان: يقول لك الملك: لِمَ سجدت..؟ فقال: سمعت صوتًا عالياً، حيث لا ينبغي لأحدٍ أن يعلو صوته إجلالًا للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع الصوت هناك غير الملك، فسجدت إعظامًا له. قال: فاستحسن كسرى ما فعل، وأمر له بمرفقةٍ توضع تحته، فلما أتي بها؛ رأى عليها صورة الملك، فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى واستحمقه، وقال للترجمان: قل له: إنما بعثنا إليك بهذه لتجلس عليها. قال: قد علمت، ولكني لما أُتيت بها؛ رأيت عليها صورة الملك، فلم يكن حق صورته على مثلي أن يجلس عليها، ولكن كان حقها التعظيم، فوضعتها على رأسي، لأنه أشرف أعضائي وأكرمها علي. فاستحسن فعله جدًا، ثم قال له: ألك ولد..؟ قال: نعم. قال: فأيهم أحب إليك..؟ قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يؤوب. فقال كسرى: زه- كلمة فارسية تُقال عند الاستحسان أو الاستهجان- ما أدخلك عليّ ودلّك على هذا القول والفعل إلا حظك، فهذا فعل الحكماء وكلامهم، وأنت من قوم جفاةٍ لا حكمة فيهم، فما غذاؤك..؟ قال: خبز البر. قال: هذا العقل من البر، لا من اللبن والتمر. وفي رواية أخرى قال: (البر اللقيمي.. نسبة لوادي لقيم- القيم بالطائف.. فقال له كسرى: هذا العقل من ذاك البر اللقيمي). ثم اشترى كسرى منه التجارة بأضعاف ثمنها، وكساه، وبعث معه من الفرس؛ من بنى له أطمًا بالطائف (حصنًا)، فكان أول أطم بُني بها.
* هذه قصة عجيبة، تحمل عدة دلالات، منها الذكاء الذي تميز به العرب، ومنها الإشارة إلى بُر الطائف، وهو البر اللقيمي الشهير، ومنها بدء معرفة العرب بالأطم (الحصون)، إذ يبدو أنها انتشرت في الطائف، وفي شريط جبال السروات حتى اليمن من هذا التاريخ الذي جاء فيه من فارس من بنى أطم غيلان بن سلمة.
* هناك أمر آخر في العلاقة بين فارس وجزيرة العرب والطائف. فمما يعرف؛ أن الفرس كانوا منذ ما قبل البعثة المحمدية؛ وهم يغزون اليمن، ويحتلونها، ويواجهون فيها الأحباش، وكانت لهم بها صولات وجولات، حتى اكتشفنا في زمننا هذا؛ أن لهم بقية من أصلابهم في هذا البلد العربي العريق، يتمثّلون في (الحوثة والديالمة)، يعتدون ويقتلون ويدمرون لخدمة فارس الخمينية المعاصرة، ولكي يعيدوا في زمننا هذا؛ زمن استعبادهم لليمنيين، بينما الفرس في تلك العصور الغابرة؛ كانوا يصلون للطائف في غرب الجزيرة العربية؛ في مواسم سوق عكاظ للتجارة والمكوس ليس إلا، وتصلهم وفود الطائف للغرض ذاته، فلم يعرف أنهم توطنوا في غرب الجزيرة العربية، ولا في شرقها ولا شمالها ووسطها، وفي هذا دلالة على مكانة ومنعة القبائل العربية في هذه الجهات، التي حالت دون غزو فارسي مماثل لما كانت تتعرض له اليمن، وما تتعرض له اليوم، بل إن هذه القبائل العربية المنيعة؛ هي التي كانت تشن الهجمات على الفرس في ديارها من شطوط نهر دجلة والفرات.
* ومن الأدلة على منعة القبائل العربية المواجهة لفارس في تلك الحقبة؛ ومنهم: (تميم وشيبان وربيعة وغيرهم)؛ أنه في عهد (أردشير) مقيم الدولة الساسانية؛ كانت هجرة قبائل تنوخ من العراق كراهية الخضوع لسلطانه، وفي عهد (سابور الأول 241 - 272م)؛ نجد قصته مع ملك الحضر العربي وهو: (الضيزن بن معاوية القضاعي.. أو الساطرون) كما في بعض الكتب، وذلك أن الضيزن أغار على فارس، وأسر أخت سابور أو عمته، فسار سابور إليه، وحاصر الحضر حتى استولى عليها- الحضر كانت مدينة فراتية- ثم استصلح سابور العرب، وأحلَّهم أرضًا بفارس وغيرها. وفي غارة الضيزن؛ يقول عمرو بن ألَّه من قضاعة:
لقيناهم بجمع من علافٍ
وبالخيل الصلادمة الذكورِ
فلاقت فارس منا نكالًا
وقتَّلنا هرابذ شهرزورِ
دلفنا للأعاجم من بعيد
بجمع ذي التهاب كالسعيرِ