أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- 1 -
هذا الركود الذي تمرُّ به (القِصَّة القصيرة) في (المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة) ليس بخاصٍّ بالأدب في المملكة، لكنه عالمي. ويمكن تشخيص الأسباب في الآتي:
لعلَّ أبرز الخصائص في (القِصَّة القصيرة):
1 - اندغام اللغة الشِّعريَّة في هذا الجنس السردي الحديث (القِصَّة القصيرة). على الرغم من «رأس الشاعر»، الذي كان يُقلِق الكاتب السُّعودي (محمَّد علوان)- أحد كتاب القِصَّة القصيرة البارزين، على سبيل النموذج- فيُطالب به، كما جاء في قِصَّته تحت عنوان «المطلوب رأس الشاعر»، من مجموعته «الخبز والصمت»، 1977. وذلك ما كان يُمتِع النصوص بالثراء الفنِّي وممازجة الأذواق على افتراقها بين هذين الجنسَين (الشِّعر والقِصَّة).
2 - إلى ذلك فإنَّ (القِصَّة القصيرة) تُكتب عادةً بلغة رامزة مومئة، لاختزال الدِّلالات في إشارات نصِّيَّة سريعة، بيد أن لهذه اللُّغة قيمتها الفنِّـيَّة في ذاتها؛ من حيث هي فنٌّ، تمنح النَّصَّ كُلِّـيَّته وتساميه.
3 - تلعب الأفعال والعبارات المتلاحقة دَورها في تمثيل التوتُّر الحدثي في (القِصَّة القصيرة)، لا بدِلالاتها فحسب، ولكن بالموسيقى التي تولِّدها أيضًا؛ فتشدُّ القارئَ لاهثًا وراءها ليجد نفسه في تعايُشٍ نفسيٍّ حيٍّ مع البطل وما يخوضه من مواقف وتأزُّمات.
4 - من أبرز معالم (القِصَّة القصيرة) الأسلوب التصويري، بما فيه من أدوات الاستعارة والرمز. ولا يأتي هذا في النصوص الجيِّدة لزُخرفيَّة النصِّ، بل هو يؤدِّي فعلًا إيحائيًّا وتصويريًّا يعمِّق الإحساس بتشعُّبات المضامين النفسيَّة والفكريَّة في القِصَّة.
ولكن إذا كانت هذه الخصائص الفنيَّة والبنائيَّة تعكس خصوصيَّة (القِصَّة القصيرة)، بطبيعتها التي تدنو بها من شِعريَّة النصِّ الشِّعري، في تكثيف الدِّلالات المتركِّزة حول لقطةٍ من تجارب الحياة، فإنها تعكس كذلك- بمنظورٍ أشمل- اتِّجاهًا معاصرًا عالميًّا إلى الشِّعريَّة في جنس القصص عمومًا، بما فيه (الرواية)، من نحو ما يبرز، على سبيل التمثيل، في أعمال (جابريل غارثيا ماركيث Gabriel Garc?a M?rquez)، أو (أنطونيو جالا Antonio Gala)، أو (باولو كويلو Paulo Coelho)، أو غيرهم؛ بحيث لم يَعُد القَصُّ سردًا، بل قد صار تأمُّلًا شِعريًّا، واستبطانًا فلسفيًّا، يُثري التجربة الفنِّيـَّة، ويعمِّق دِلالاتها الإنسانيَّة.
- 2 -
ولهذا كلِّه يبدو أنَّه قد بات من مزاحِمات (القِصَّة القصيرة) اليوم أنواع سرديَّة أخرى، لعلَّ في طليعتها: (القِصَّة القصيرة جِدًّا)، لمن أراد المضيَّ مع التكثيف والشِّعريَّة إلى أقصاهما. أمَّا من أحبَّ المضيَّ مع التفصيل إلى أوسع الآفاق، فـ(الرواية) تُرويه.
ويظهر من خلال مصطلح (القِصَّة القصيرة جِدًّا A VERY SHORT STORY)، في ذاته، إلماحٌ ضِمنيٌّ إلى أنَّ النصَّ هو من جنس (القِصَّة القصيرة) إلَّا أنَّه أقصر من معتاد القِصَّة القصيرة، وإنْ كان كُتَّابه قد يبالغون في اختزاله كثيرًا. على أن المصطلح هنا يلفتنا إلى ما هو أكثر أهميَّة، وهو النظر في طبيعة النصوص نفسها المندرجة تحت هذا المصطلح؛ من حيث كونها تتصف بالقَصصيَّة أصلًا أو لا تتصف؟ ما قد يدعونا إلى تصنيف بعضها تحت مصطلح آخَر، هو: «قَصِيْصَة»، (بقاف مفتوحة وصاد مكسورة)، تركيبًا نحتيًّا من «قصيدة نثر-قِصَّة قصيرة جدًّا»- كما اقترحتُ في كتابي «فصول نقديَّة في الأدب السُّعودي الحديث»، 2014- لأنَّ ما يُسمَّى القِصَّة القصيرة جِدًّا هو أحيانًا (قصيدة نثرٍ في قِصَّة قصيرة جِدًّا)، أو (قِصَّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثرٍ)، لا فرق، في تزاوجٍ يجعل الفارق بين هذين النوعَين شفَّافًا جِدًّا، حتى لا يكاد يميِّز القِصَّة القصيرة جِدًّا سوى التزامها حكائيَّةً ما، في حين لا يلزم ذلك (قصيدة النثر). كما أنَّ بعض الشِّعر لا يميِّزه عن النثر سوى الإيقاع، والإيقاع وحده ليس ما يمنح الشِّعر شِعريَّته، مثلما أنْ ليس فقدانه هو ما يمنح النصَّ نثريَّته بالضرورة. وإنَّما الإيقاع عنصرٌ فارقٌ للشِّعر، ولا سيما العَرَبي، كما يجب أن تكون الحكائيَّة عنصرًا مائزًا لكلِّ ما يندرج تحت اسم «قِصَّةٍ»، طالتْ أم قصرت.
- 3 -
وبذا يبدو أنَّ دماء (القِصَّة القصيرة) قد تفرَّقت بين قبائل الأنواع السردية والشِّعريَّة، من: (الرواية)، و(القِصَّة القصيرة جِدًّا)، و(قصيدة النثر)، بل حتى من بعض (شِعر التفعيلة الحديث)، الذي يستولي على خصائص القِصَّة القصيرة أحيانًا، فضلًا عن النزوع المعاصر إلى مزاوجةٍ أوسع بين أجناس الأدب وأنواعه.
فما الذي يبقى- والحالة هذه- (للقِصَّة القصيرة) لتعيش؟!
ربما صحَّ القول: إنها كانت جِسرًا نوعيًّا بين (القِصَّة الطويلة/الرواية) و(القِصَّة القصيرة جِدًّا)، ثمَّ ما لبت أن تفرَّق عنها كتَّابها وقرَ ّاؤها؛ منهم من بقي في عالم الرواية عند منطلق الجسر، ومنهم من أفضى إلى القِصَّة القصيرة جِدًّا لدى منتهاه. وبخاصَّةٍ أنَّ هذه الأخيرة باتت مواتيةً جِدًّا للنشر اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومثلها مواتاة (الشِّعر)، وذلك للطبيعة التكثيفيَّة الصالحة للإيماض والتغريد. على حين ظلَّت (القِصَّة القصيرة) عالقةً في منطقةٍ بَين بَين، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك؛ من حيث إنَّ طولها النِّسبي يحول بين منافسة الكثافة في القِصَّة القصيرة جِدًّا، أو في الشِّعر، وقِصَرها في المقابل يحرم القارئ العوالم الرحبة التي يجدها في الرواية.
- 4 -
تلك هي الصورة الراهنة.
ومع هذا، فمن غير الصواب الجزم باندثار جِنسٍ أدبي، أو نوعٍ سردي. فالفنون بصفةٍ عامَّةٍ وليدة تراكماتٍ معرفيَّة وأسبابٍ حضاريَّةٍ مختلفة، ربما تَبعث أمواجَ بعضها بعد أن كاد أهله يعلنون اليأس من حياته، بحقٍّ أو بباطل. وقد تُوْدِي ببعضٍ آخر، كان ملء السمع والبصر، ومحلَّ الاحتفاء والرهان والتنبؤ له بالمستقبل الزاهر. ولنا في ما حدث بين موجة (الشِّعر التفعيلي) في القرن الماضي، مثلًا، و(الشِّعر التناظري) في هذا القرن آيةٌ على هذا؛ فها هو ذا الأخير يعود ليستولي على المنصَّات- المحتلَّة في ثمانينيَّات القرن المنصرم وما قبلها من قصيدة التفعيلة- حتى على أيدي من كانوا بالأمس قد هجروا الشِّعر التناظريَّ، وتبرأوا منه، من الشعراء والنقاد، معلنين أنه قد قضى نحبه، غير مأسوفٍ عليه!
** **
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا - الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)