الثقافية - علي القحطاني:
اختلف الآراء النقاد والأكاديميين حول القصة؛ فهناك من يرى رسوخ هذا الجنس الأدبي في ميادين الأجناس الأدبية وأنه ما زال يستطيع المنافسة، وهناك فئة أخرى ترى أن هذا الجنس الأدبي ولّى زمنه وأنه في حال موت سريري، وإعلان موته مسألة وقت فقط!
«الجزيرة الثقافية» أدرك أهمية الموضوع وقامت بعمل تحقيق صحفي للوقوف على أبعاد هذه القضية النقدية، واستضافت نخبة من الأدباء والمثقفين القصاص والروائيين، للحديث عن هذا الأمر، والوقوف على أبعاده وكانت البداية مع الروائي والقاص عبدالله النجدي الذي يقول: ما تعيشه القصة القصيرة من ركود ليس لسبب في ذاتها، بل لسبب من غيرها، أثر عليها فأضعف وجودها، هذا السبب من أختها الرواية، نعم الرواية الآن تتسيد المشهد السردي، وهالتها الوهاجة أخفت بريق القصة القصيرة، فخفت واختفت قليلاً، لا عيب في القصة القصيرة لذاتها، فهي فن جميل، بل وصعب، له تقنياته الخاصة التي تتطلب مهارات عالية، المشكلة في كُتَّاب القصة القصيرة الذين حزموا أقلامهم وأوراقهم وهاجروا نحو أرض الشهرة، أرض الرواية، فقد تكرس لدى كثير من الكتاب والقراء على حد سواء أن الكاتب لن يتكرس أديباً مرموقاً ما لم يكتب الرواية! هناك رأي غالب يقول إن الرواية هي سنام الإبداع السردي، وكل كاتب بالتأكيد يحب أن يتسنم هذا السنام؛ لذا يركز على كتابة الرواية. قراء الرواية أكثر من قراء القصص القصيرة، والكاتب يريد جمهورًا، يريد أيدي تصفق، وحناجر تهتف. المفترض والمنطقي في الأدب أن مكانة الأديب يحددها ارتفاع مستوى النص الذي يكتبه، لا نوع الجنس الذي ينتمي له هذا النص، بمعنى أن كاتب القصة القصيرة يكون أديباً كبيراً إذا كتب قصصاً مذهلة، تحمل قيماً جمالية عالية تدهش القارئ، أما حين يكتب رواية متوسطة المستوى فهو لن يعدو كونه أديباً متوسط المستوى، ولن يشفع له نوع الجنس الأدبي الذي كتب به وهو الرواية.
لكن للأسف الآن أصبح متداولاً حتى عند كثير من المهتمين بالأدب، أن مكانة الكاتب يحددها نوع الجنس الذي يكتب فيه لا مستوى ما كتب في هذا الجنس!
تعيش القصة صراع أجناس مع أختها الرواية، ولو وسَّعنا الحديث لوجدنا أن هذا الصراع قائم بين الاثنتين وبقية الأجناس السردية الأخرى، كالقصة القصيرة جداً والومضة القصصية، وسنجد حتى من يخرج هاتين الأخيرتين من دائرة السرد.
مستقبل القصة القصيرة مرهون بحاضرها، أما ماضيها فقد فات، وفات بشكل جيد حيث أسس لحضورها كجنس سردي مهم جداً، وما هذا الاهتمام منكم الآن بطرح هذا الموضوع وهذا الهم إلا لبنة جديدة في تطوير بنائها. نحتاج تصويب الرأي الذي يكاد يكون سائداً - كما أشرت في البداية- بأن كتابة الرواية هي تتويج لمسيرة الكاتب، وهي قمة الإبداع السردي، وأن كتابة القصة هي درجة أدنى، وكتابة الرواية هي الدرجة الأعلى في المجد الأدبي، نحتاج إلى تأسيس رأي موضوعي، قائم على أن جودة ما يُكتب هو الفيصل في مكانة السارد في عالم السرد والأدب، جودة ما يكتب لا جنس ما يكتب، بمعنى أدق نحتاج إلى مشروع تثقيفي في هذا الجانب.
أما مسألة أفول القصة القصيرة واندثارها فأمر غير ممكن الحدوث، ستبقى القصة القصيرة موجودة، الاختلاف فقط في تقدمها أو تراجعها، في زيادة عدد كتابها أو نقصانهم، أما أفولها فغير ممكن.
السرد فن متطور مما يؤدي إلى ظهور أجناس أدبية جديدة، والقصة كذلك متطورة، فكما أن هناك القصة والقصة القصيرة ظهرت القصة القصيرة جداً ثم الومضة القصصية وكل جنس جديد يكافح كثيراً حتى يتم قبوله كعضو جديد في عائلة السرد. لن تموت القصة القصيرة، وسيستمر السرد في ولادة أجناس أخرى في المستقبل، منها ما سيكافح ويعيش ومنها ما سيستسلم ويموت.
طبعاً من يتعصبون للرواية سيذكرون مزاياها ومنها أنها تعطي الأديب مجالاً أوسع من القصة القصيرة لعرض ما يريد الكاتب عرضه واستيفاء فكرته بشكل كامل.
لكن هذا مردود عليه حين نذكر مزايا القصة القصيرة ومن أهمها التكثيف والاختصار والتركيز على فكرة واحدة وتقديمها للقارئ بشكل سريع ومقنن.
لن يتوقف المتعصبون للرواية من ذكر مزايا أخرى لها وهم محقون في ذلك، لكن أيضًا للقصة القصيرة مزايا كثيرة لا تملكها الرواية.
ومن جهة أخرى يكشف الروائي محمد جبران الزهراني مستقبل القصة القصيرة في المملكة حيث يقول: «لا شك أن القصة القصيرة تأتي في مرتبة متأخرة عن الرواية التي احتلت مساحة واسعة من فضاء الأدب .. بخلاف ما كانت عليه في فترات ماضية، والتي كانت القصة القصيرة في أوج رواجها ومجدها. ومن وجهة نظري أن من أسباب ذلك هو، أن أغلب الجوائز اهتمت بالرواية وأغفلت القصة القصيرة.. إضافة إلى أن الكتاب الكبار وضعوا ثقلهم في كتابة الرواية وذلك لأنهم وجدوا أنفسهم في هذا الجنس الأدبي الحكائي الواسع، اللذيد والممتع.. وهناك سبب آخر وهو اتجاه النقاد نحو الرواية بحثًا عن الحضور والظهور، وكذلك الدور الإعلامي المهم الذي يقوم بالترويج للرواية وكتابها دون أن يلتفت إلى القصة القصيرة إلا في أضيق الحدود.
ولا يمكن الحكم بالقطع على تراجع مستمر للقصة القصيرة أو موتها، ربما تتوارى لفترة زمنية معينة قد تطول وقد تقصر لكنها تبقى جنسًا أدبيًا له كتابه ومحبوه، بمعنى أنه ما زالت تنبض بالحياة، ولو عاد كبار الكتاب إليها ستعود حتمًا إلى الواجهة مرة أخرى، خصوصًا أن هناك عزوفًا من القراء الجدد عن القراءات الطويلة التي أصبحت تصيبهم بالملل بعد أن تشبعوا بثقافة السوشيال ميديا التي تعتمد على الومضة السريعة في الخبر والمعلومة.
والعقل البشري لا يتوقف عن التمرد على السائد وخوض تجارب جديدة، ومغامراته لا تنتهي عند حد معين، ولنا شواهد وأمثلة كثيرة في الفترة الزمنية القريبة الماضية، وما حدث فيها من تحولات سريعة وصادمة في وقتها في كثير من الفنون.. رآها البعض في بداية ذلك الوقت انحطاطًا وفوضى تحاول نشر التفاهة، لكنها بعدما استقرت في الأذهان وأصبحت واقعًا، استساغها الذوق، وعُدّت أدبًا يستحق الإشادة به وبرواده.
وكما نفى القاص خالد الداموك، مسألة حالة الركود التي تحيط بالقصة، وقال: «القول بموت القصة ادعاء غريب وليس صحيحاً بتاتاً وعلى من يتبناه إحضار أدلته».
أما أنا فرأيي معاكس تماماً، وأرى أن القصة السعودية تمر بمرحلة متطورة لم تصلها في تاريخها السابق، وهذا لا يخفى على المتتبع المنصف لمسيرة القصة القصيرة في المملكة، وهناك شواهد كثيرة على ذلك أذكر منها:
1. على الصعيد النشر يمكن القول إن هناك نشر كمي أفضل من السابق سواءً على مستوى الدوريات أو المجاميع القصصية أو على الإنترنت. كذلك هناك تبني إصدار مجاميع قصصية لكتاب عدة كما فعلت وزارة الثقافة عندما أصدرت ستة مجاميع قصصية وقامت بترجمتها إلى الإنجليزية، وأيضاً ما صدر عن نادي الحدود الشمالية الأدبي تحت عنوان (مئة قصة سعودية)، وأيضاً على الصعيد الفردي هناك مبادرة دار ابن ربيع لصاحبها أستاذنا محمد ربيع التي تبنى فيها إصدار مجموعة قصصية لعدد من كتاب القصة السعوديين والعرب بقراءة نقدية لكل قصة تحت عنوان (ملاذ وشجون أخرى).
2. فعاليات القصة القصيرة على قدمٍ وساق ومنها مهرجان القصة القصيرة الذي أقيم تحت رعاية سمو أمير منطقة الحدود الشمالية بتنظيمٍ من ناديها النشيط، ولا يمكنني حصر عدد الفعاليات اليومية التي تقام في برامج التواصل الاجتماعي.
3. إقامة عدد من المسابقات منها جائزة نادي جدة وجائزة نادي الباحة وأيضاً ما أُعلن عنه مؤخراً من قبل نادي الحدود الشمالية عن مسابقة للمجاميع القصصية التي صدرت في عام 2020م.
4. القصة القصيرة السعودية اليوم أجمل بكثير مما كانت عليه، الدلائل الفنية في المنتج القصصي السعودي تشير إلى زخم إنتاجي دفعها نحو التجديد والتجريب والبحث عن التفرد ونبذ التقليدية، فهناك تجارب في الأنسنة والواقعية السحرية وتجديد في الموضوعات وآليات السرد لم تكن موجودة أو تم الكتابة فيها بكثافة خلال الفترة القريبة الماضية، وأذكر هنا على سبيل المثال تجربة مثيرة للقاص محمد العرادي في مجموعته (لماذا يظن الجندي غير المجنون أنه كلب) تتجه نحو تغريب فضاء القصة.
هناك أيضاً استفادة من التكنلوجيا الحديثة بتواصل المبدعين وإنشاء الملتقيات والأندية الافتراضية المختصة بالقصة وهي تزخر بالنشر والتفاعل، ومنها ملتقى القصة القصيرة التفاعلي على تطبيق الدردشة الفورية (واتساب) وهو يضم أكثر من مئتي عضو ونادي القصة السعودي على الفيسبوك وأيضاً هناك محاولة من عراب القصة العربية جبير المليحان لبث الحياة من جديد في موقع القصة العربية ولكن ظروفه الصحية عرقلت إطلاقه حتى اليوم، فنسأل الله له الصحة والعافية. كما أن هناك مواقع جديدة دشنت خلال الفترة القريبة الماضية تهتم بالقصة مثل موقع سرد أدبي.
هذه الشواهد تدل على حراك على مستوى القصة نتج بسبب وجود منتج قصصي سعودي متميز، ولو لم يكن هذا المنتج قادرًا على تقديم نفسه بقوة لما حدث كل هذا الحراك، فلست أعلم لماذا يعتقد أحدهم أن القصة السعودية تمر بحالة ركود! ربما يكون من قال ذلك ناقداً! فلو عدت إلى إجابتي لوجدت أني لم أتحدث عن النقد لأنه حقيقةً هو من أهمل القصة السعودية وليس أحد غيره!
كما أكد الداموك رأيه في أنه: كثيرًا ما تكون الغلبة للرواية، لتتوارى القصة خلف نجاحات الرواية، فهل ينذر ذلك التراجع بأفول القصة ومن ثم اندثارها.
فقال: أبداً، لا يمكن أن يكون هذا الاستشراف معقولاً من جوانب عدة:
أولاً: العوار الواضح في المقارنة بين جنسين سرديين لكلٍ منهما كتابه وقراؤه المختلفون باختلاف ميولهم.
ثانياً: لأي جنس أدبي حاضر خصائص تميزه عن غيره مما يدعم حضوره وبقاءه، وتنفرد القصة في كينونتها الجنوسية بوحدة الموضوع والإيجاز، ومتى ما وجد فن يقوم بهذين الركنين فربما نقول إن هناك تهديدًا للقصة بالأفول، والرواية لا تقوم على هذين الركنين بل هي تتسم بالطول وتعدد الموضوعات، وأنا أكتفي بهذين الفرقين لأنهما يستمدان جوهريتهما من التناقض (القصة قصيرة، الرواية طويلة. القصة تطرح موضوعاً واحداً، الرواية تتناول مواضيع عدة).
القصة فن أدبي قائم بذاته ولا يشاركه أي فن آخر بسماته ولا بعناصره، وسيظل هذا الفن قائماً وموجوداً ما لم ينشأ جنس سردي يعتمد على (وحدة الموضوع والإيجاز) ويزاحم القصة في وجودها بين أساليب التعبير السردية.
ثالثًا: اعتماداً على فيزياء التزاحم التي اعتمدتموها، فيمكننا القول إن الرواية زاحمت ثم أزاحت الشعر من المشهد الجماهيري، هذا صحيح ولا يمكن إنكاره، لأن الشعر كان يتصدر المشهد الجماهيري، ولكن أن نقول إن الرواية زاحمت القصة فهذا لا يصح لأن القصة جاءت بعد الرواية، بل من المنطقي القول إن القصة هي من تزاحم الرواية على المشهد الجماهيري وليس العكس، ولا بد أن نهبها الوقت الكافي لنرى إذا ما كانت ستزيح الرواية من تسيد المشهد الجماهيري أم لا، آخذين بعين الاعتبار حداثة الفن القصصي في المملكة على وجه الخصوص وقلة الإنتاج فيه في مقابل الرواية التي تُنتج بأعداد مثيرة للذعر.
فيما أشار إلى موضوع وهج القصة في الثمانينيات الميلادية، ومسألة موت الرواية وظهور جنس جديد بقوله:
«قصة الثمانينات لم تكن بذلك الوهج الذي هي عليه قصة اليوم، فلم تكن جماهير القراء تعرف ما هي القصة القصيرة، كما أنها كانت تواجه مشكلة أساسية في بنائها وحتى في تجنيسها مما يجعلنا الآن نتذكر ذلك الخلط الكبير بين القصة والخاطرة حتى لدى كتاب القصة أنفسهم في تلك الفترة، أما اليوم فنحن نجد قصة سعودية مكتملة البناء ناضجة فنياً وتعرف فن القصة فلا تخلط بينه وبين أي جنس أدبي آخر. ودعني ما دمت قد اخترت التحقيب أن نكتفي بالمقارنة بين حقبتين زمنيتين، الأولى هي العشر السنوات الماضية والثانية كل ما قبلها بما فيها الثمانينيات، وسنجد أن الحقبة الحالية أفضل بكثير على مستويات عدة، ففي التلقي هي أكثر مقروئية، وفي الإنتاج هي أكثر إنتاجية، وفي التنوع هي أكثر تنوعاً في آلياتها وموضوعاتها وأكثر وعياً بتقنياتها بل إنها أكثر عمقاً، لقد سجلت أسماء سعودية كثيرة حضورها على الصعيد العربي بشكلٍ لافت واجتذبت الاهتمام فبات إنتاجهم يُدرس في الجامعات العربية، كما أن هناك حضورًا للإنتاج القصصي السعودي في الجوائز العربية بقوة، خديجة النمر وبلقيس الملحم ووفاء الحربي سجلوا حضورهم في قوائم جائزة الملتقى التي تكاد تكون أهم جائزة عربية في فن القصة القصيرة، وأيضاً مقبول العلوي في جائزة الطيب صالح، وأيضاً محمد الراشدي في جائزة عكاظ الدولية للسرد. أيضاً نرى أن كاتب القصة السعودي اليوم هو كاتب محترف، لا يتطفل على الأجناس الأخرى كما يحدث اليوم في الرواية بدخول كل من هبَّ ودبَّ فيها، وهذا ما رأيناه وشاهدناه يوماً ما في العصور الماضية عندما كان كاتب الخاطرة يظن أن ما يكتبه قصة لأنه وضع شخصية فيما كتبه أو لأنه ينقل مشهدًا معينًا ضارباً بعرض الحائط كل المعايير الفنية للقصة القصيرة.
قصتنا السعودية اليوم هي المتوهجة وستشهد توهجاً أكبر خلال الأعوام القادمة، وكل المنتج السابق قبل الألفية كان محاولة تأسيس اجتماعية وفكرية لفن القصة ونحن أبناء هذا الجيل ندين بالفضل فيها إلى رواد تلك الفترة الذين تعلمنا منهم ومن فنهم وبشكلٍ مهم من أخطائهم، وها نحن اليوم نشهد بوادر حصاد لفعل ثقافي تراكمي بدأ يثمر وما زال إنتاجه الأهم قادماً بإذن الله».
كما توجهت الجزيرة الثقافية إلى القاص ظافر الجبيري، تحدث بصراحة عما ينتظر القصة القصيرة، فقال: «لا مستقبل للقصة القصيرة، إذ لا لغة خالدة تُكتب بها ولا إنسان يتحرك على ظهر البسيطة يسير وسط طيف من المشاعر الكبرى بين السعادة والشقاء وما بينهما من مكابدات العيش لتضييق مساحات الألم وبسط مساحة اللذة المبتغاة..
لا مستقبل للقصة في بلادنا! لندرة أو انعدام الكتاب الحاملين لواءها والهاجسين بالقبض على جمرتها والقادرين على التعبير من خلالها..!
يمكن أن نعد ما سبق هو النقيض أو هو الجواب، فالقصة لها كل المستقبل لوجود هذه العوامل اللازمة لاستمرارها وتطورها، وأعني بذلك عوامل اللغة الآسرة والإنسان الحيّ والكُتّاب ذوي الرغبة الأصيلة والقدرات الكامنة على التعبير بفنّ عن الإنسان.
فالقصة القصيرة لا تزال تكتب بأقلام مبدعين ومبدعات جعلوا غايتهم تذليل كل الصعاب لخدمة هذا الفن الأدبي النبيل كما يوصف عادة، وهو وصف ينطبق على الكثير من الكُتاب، فلديهم النبل في تحمل صعاب الحياة والنبل في الصبر على تجاهل النقاد وفقر الجوائز ومحاصرة القصة بالتجاهل حينًا والعزف المكرور على زمن الرواية حينًا وتقديم الإنتاج الهزيل في حالات كثيرة على ما سواه لأسباب معروفة لا تكاد تخفى على العارفين ببواطن المشهد.
فيما تطرق الجبيري إلى مسألة الركود الذي يحيط بالقصة فقال: «الركود الذي يبدو للمُتأمل مرتبط أساسًا بالحالة الأدبية العامة، ويمكن أن نعزوه أيضًا إلى قلة اهتمام الصحف والمجلات بالقصة، وهو الاهتمام الذي قلّ عما كان سابقًا، فضلًا عن أن القصة القصيرة تُصارع لإثبات حضورها بين فنون أدبية متعددة، ويمكن أن نُضيف إلى ذلك قلة الاهتمام النقدي وعدم تناسب الجوائز الأدبية مع ما يطرح من إنتاج قصصي.
لا شك أن فترة الثمانينيات كانت صاخبة بكُلّ ما تعنيه الكلمة، إذ دخلت القصة وكُتابها وحراكها النقدي في معركة الحداثة الصاخبة، وقد استفادت كثيرًا في تلك الفترة من الجو العام الذي كان عنوانه الأبزر: الصراع بين التقليد والتحديث، أما في العقود الأخيرة فيظهر أن القصة تعاودُ التموضع والتكيف مع الأداء العام لفنون الأدب التي أفرزت فنونًا نثرية أخرى وظهر (النص المفتوح) والـ(ق ق ج) في مُقابل أجناس الأدب النثري المعروفة ذات التعريفات الحدية الصارمة».
وكما أشار القاص فيصل غمري إلى بعض الجوانب المهمة التي تتعلق بالقصة في حديث خص به الجزيرة الثقافية، فقال: «أحد تعريفات القصة القصيرة أنها نوع أدبي عبارة عن سرد حكائي نثري أقصر من الرواية (البعض يرى أن مجموع كلماتها يجب ألا يتجاوز العشرة آلاف كلمة)، وتهدف إلى تقديم حدث وحيد غالباً ضمن مدة زمنية قصيرة ومكان محدود غالبًا لتعبر عن موقف أو جانب من جوانب الحياة تمثل سردًا اجتماعيًا متخيلاً أو تكون القصة خيالية «فانتازيا» بشكل كامل ولا تمت للواقع بصلة. لا بد لسرد الحدث في القصة القصيرة أن يكون متحدًا ومنسجمًا دون تشتيت، وغالبًا ما تكون القصة وحيدة الشخصية أو شخصيات عدة متقاربة لا يتجاوز عددها الثلاثة شخوص رئيسية في القصة يجمعهم مكان واحد وزمان واحد ينسجون الحدث والحبكة اللازمة للقصة.
إذن فالقصة القصيرة نوع أدبي نثري أقصر من الرواية كما ذُكر آنفًا، لكن هل تلقى القصة القصيرة الرواج والزخم الإعلامي والإعلاني ذاته الذي تلقاه الرواية؟ في الحقيقة لا أملك إحصاءات موثقة في هذا الموضوع، لكن إجمالاً مما نرى في معارض الكتاب ووسائل التواصل الاجتماعي أن الرواية ما تزال تتربع على عرش طلبات القراء ومتابعتهم، لذلك نجد أن كثيراً من كتاب القصة القصيرة في الآونة الأخيرة هجروها واتجهوا لكتابة الرواية، لكن هذا لا يعني أن القصة القصيرة في طريقها للتراجع والاندثار، فالملاحظ أن دور النشر ما زالت تقبل نشر وتوزيع المجموعات القصصية -أتكلم هنا عن الدور التي لا تتقاضى مبالغ مالية من الكاتب مقابل نشر الكتاب- وهم لم يكونوا ليفعلون ذلك إلا لإيمانهم العميق أن القصة القصيرة سترجع وبقوة في المستقبل القريب جنباً إلى جنب مع الرواية لأسباب منها على سبيل المثال، تسارع وتيرة وقت القارئ وانشغاله اليومي وبالتالي أصبح يبحث عن قصة يقرأها وفي الوقت ذاته لا تتطلب وقتًا كبيرًا لإتمام قراءتها كما الرواية.
في عام 2013م، مُنحت الكاتبة «أليس مونرو» جائزة نوبل في الأدب وحينها قالت «مونرو» إنها تأمل في أن تجلب الجائزة القراء للقصة القصيرة، ربما لشعورها أن اهتمام القراء منصب على الرواية، كذلك نجد في العالم العربي جائزة الملتقى للقصة القصيرة التي تمنح سنوياً لأفضل قصة قصيرة عربية، وكما هو معروف فهذه الجائزة تحت رعاية الجامعة الأمريكية بالكويت.
في المملكة العربية السعودية أرى أن القصة القصيرة تسير بخطى ثابتة لكن ليس بالتسارع المطلوب للانتشار، بمعنى، نجد دور النشر تطبع وتنشر المجموعات القصصية بشكل مستمر وكذلك الأندية الأدبية في جميع مناطق المملكة، لكن أين نتاج هذا الطبع والنشر؟ لماذا لا نجد هذه المجموعات القصصية في متناول القارئ في المكتبات؟ ربما نجدها في معارض الكتاب لكن هذا لا يكفي لانتشار القصص السعودية للكاتب السعودي داخل المملكة وكذلك إقليمياً. يقول الدكتور «طلعت صبح السيد» في كتابه «القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية بين الرومانسية والواقعية» (وهكذا يمكن أن يصبح فن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية قادرًا - بما توافر إليه - على أن ينتقل من مجاله الإقليمي، ومن بيئته المحلية، إلى مجالات أخرى أرحب وأوسع، ويصبح كاتب القصة القصيرة في المملكة هو الفنان الذي توافر عنده عناصر الشكل الفني، واكتمل له المضمون العالمي).
إذن فالقصة القصيرة في السعودية موجودة بقوة لكن الإشكالية في كيفية وصولها للقارئ السعودي والعربي، أي داخلياً وإقليمياً، وبالتالي ليس من الإنصاف وصف حالة القصة القصيرة المحلية بالركود أو الجمود، المسألة فقط كيف نوصل هذا الكم الكبير من مجموعات القصص القصيرة للكاتب السعودي».
كما أشار القاص خالد الذبيب، قضية طغيان الرواية على المشهد الثقافي بقوله: «أعتقد أن طغيان الرواية بشكل عام وجمالية هذا الفن حتى على المستوى العالمي والذي يكسب وهجًا إعلاميًا لكتابها قد سحب الأضواء من القصة القصيرة. فيكفي أن نعرف أن جائزة نوبل للأدب تُعطى في غالبيتها لكتّاب روائيين، ولا أعتقد أن أحد كتّاب القصة القصيرة حاز على الجائزة، وإن حدث ذلك فقد تم باعتبارهم كتّابًا روائيين بالإضافة إلى تجاربهم في القصة القصيرة وليس كتّاب قصة قصيرة، ويستثنى من ذلك الكاتبة الكندية اليس مونرو الحائزة على الجائزة عام 2013م.
حتى التاريخ ذاته لا يتعامل مع كتّاب القصة القصيرة ومنجزاتهم الأدبية كما يتعامل مع منجزات الروائيين الذين يخلّدهم التاريخ باعتبارهم أدباء عظماء، ومثال ذلك نيكوس كازانتزاكس، فيكتور هوجو، تولستوي، نجيب محفوظ...الخ، قارن ذلك بأسماء مثل انطون تشيكوف، ادغار الن بو، جي دي موباسان والذين لا يكاد يعرفهم سوى متابعي القصة القصيرة حتى كتاب مثل ديستوفسكي، وجابرييل جارثيا ماركيز مع دخولهم مجال القصة القصيرة، إلا أن شهرتهم سببها فن الرواية وليس القصة القصيرة. فكتّاب القصة القصيرة يتم تصنيفهم كـ «كتّاب قصة قصيرة» فقط، أما الروائيون فيصنفهم التاريخ باعتبارهم أدباء «أثروا الحياة الإنسانية».
أحد أسباب هذا الركود هو النظر إلى القصة القصيرة باعتبارها مرحلة سابقة لكتابة الرواية والتي تبدأ بعدما ينضج الكاتب ليصبح بإمكانه كتابة الرواية، فهذا الأمر ملاحظ عالمياً، وألقى بظلاله على كتابة القصة القصيرة في السعودية وكأن القصة القصيرة جنس أدبي لا يبدأ به إلا قليلو الموهبة والخبرة.
أحيانًا يقع اللوم على بعض كتّاب القصة القصيرة أنفسهم الذين اتخذوا من هذا الفن غطاء لإخفاء ضعفهم الفني واللغوي، ويطلبون من القارئ أن يفهمهم، وهذه إشكالية أدت بالقراء إلى عدم الاهتمام بهذا الجنس الأدبي الرفيع، فالقارئ «ذكي» إن خدعته مرة لن تخدعه أكثر من مرة، هذا الصراع بين كاتب قليل الموهبة وقارئ فطن أثر سلباً على الموهوبين من الكتّاب.
وجود وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية أحد الأسباب فقد أصبحت ملاذاً لكتّاب القصة القصيرة، فبسطرين أو ثلاثة أصبح بإمكان الإنسان كتابة قصة قصيرة جدًا (ق. ق. ج) بالتويتر أو أكثر من ذلك على الفيس بوك، وبإمكانه ذكر قصة قصيرة شفهياً من خلال السناب شات، فأصبحت هذه الوسائل مكاناً مناسباً لتفريغ ملكة القص عند الإنسان عكس الرواية التي تحتاج إلى نفس طويل ومساحات أوسع للكتاب.
وفالقصة القصيرة قد تتأرجح صعوداً وهبوطاً ولكنها تبقى فناً قائماً خالداً مع التاريخ، فهذا الفن والذي اعتبره فناً قرآنياً بامتياز باعتبار أن قصص القرآن أغلبها تتبع أسلوب القصص القصيرة، فقصة قابيل وهابيل في سورة المائدة من قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ..} إلى قوله تعالى: {..فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}... قصة قصيرة مكتملة الأركان بداية بعدد كلماتها التي لا تزيد عن 90 كلمة، أو أسطرها الـ (15) فقط، وكذلك السرد في قوله تعالى: ({إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا} ...الآية). والحوار في قوله تعالى {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وقصة بلعام بن باعورا في سورة الأعراف {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}، هل هناك أجمل وأعمق من هذه الـ(ق. ق. ج) من ناحية الفكرة وعمق المعنى؟
بل إن بعض قصص الأنبياء نجدها طويلة ومفصلة في بعض سور القرآن، ونجدها مختصرة جدًا دون إخلال في مواضع أخرى مثل قصة نوح في سورة القمر {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا}... إلى قوله {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}. الشاهد أن هذا الفن القرآني لا يمكن أن يندثر، ولكنه بحاجة إلى كتّاب يرعونه حق رعايته ويقدرونه حق قدره وإلا يتم التعامل معه على أنه فن المبتدئين، بل فن قائم بذاته، جنس أدبي مختلف عن الأجناس الأدبية الأخرى، ولكن بكلمات أقل وعمق أكثر، «ذهب وطار» ليست قصة قصيرة، ولكن «بعد أن ماتت الأماني ذهب الحلم وطار» ربما تكون قصة قصيرة جداً.
كما أن القصة القصيرة على موعد مع إعادة بعث ولكن من خلال وسائل مختلفة، فالإنترنت وما يتضمنه من وسائل التواصل الاجتماعي تعتبر ساحة جديدة لإعادة بعث هذا الجنس من جديد. الأمر في نظري لا يتعلق بالقصة القصيرة كجنس أدبي بقدر ما يتعلق بالشبكة المتصلة بهذا الجنس، وأعني بها «الكاتب، والقارئ، ووسيلة النشر»، فما تغير هو وسيلة النشر والتي كانت تعتمد على الورق (كتب، مجلات، جرائد). فكما أن القصص والأساطير كانت تُنقش على الجدران، ظهر الورق والآن الشبكة العنكبوتية إلا أن القصة بقيت خالدة. إذن فإن الفن نفسه لا أعتقد أنه سيموت أو يتشكل بشكل جديد، ولكن سيُعاد بعثه بوسائل جديدة، دورنا هنا أن نقبل التفاعل مع هذا الجنس الأدبي بوسائله المختلفة وألا نقف متحجرين على وسائله القديمة «الورق» مع إيماني ويقيني بأن الوسيلة القديمة «الورق» ستبقى، فكاتب القصة مهما كان إبداعه عبر الفضاء العنكبوتي قد لا يعتبره البعض كاتباً قصصياً، إلا من خلال الورق، «كتاب، مجلة، جريدة».
فكما أن هناك وسائل «نقل» جديدة، فكل ما في الأمر أنه أصبح هناك وسائل «نشر» جديدة أما الجنس الأدبي ذاته فسيبقى كما هو بمعطياته ومكوناته ومخرجاته، يكفي أنه «فن قرآني» فهو خالد خلود القرآن».
هذا وقد نفى القاص إبراهيم المكرمي في حديثه للجزيرة الثقافية أن يكون هناك أي ركود يحيط بالقصة، حيث يقول:» شكراً للجزيرة الثقافية وما تقدمه لإثراء المشهد الثقافي، لا أدري ما نوع الركود الذي تعنيه، أكثر المسابقات المنظمة في الأجناس الأدبية تحظى القصة القصيرة بحظ وافر فيها، إذا كان الركود بعدد المهتمين بها فأنا أرى أن سبب ذلك هو مقارنة قرائها بقراء أجناس أخرى كالشعر والرواية والشذرات، على حد معرفتي فللقصة قراؤها الخاصون والمهتمون ولا أرى هنالك ركوداً بمعناه الدقيق.
وفي تعليقه حول الصراع بين الرواية والقصة وغلبة الرواية قال: «الرواية تكاد تكون هي الجنس الأدبي الأكثر قراءة واطلاعاً في العالم، فإذا ألقينا نظرة على آخر 50 أديباً عالمياً فازوا بجائزة نوبل للأدب، فالقسم الأكبر منهم روائيون وتكاد القائمة تخلو من القصة القصيرة، واعتقد أن هذا أكبر دليل على تفوق الرواية على القصة، ولكن مع ذلك أرى أن هنالك حراكاً ومسابقات ودورات للقصة القصيرة.
أما عن موضوع وهج القصة في الثمانينيات الميلادية، فقد بين أن هناك مميزات ساهمت في نمو الأجناس الأدبية الأخرى، منها اثر السينما على تخيل القارئ مثلاً، السينما جعلت القارئ يبحث عن التفصيل أكثر في القصة وهذا الأمر تجده يتجلى في الصورة الروائية.