أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
وردت نصوص شرعية صحيحة توحي بالإعفاء من بعض أعمال القلوب كقوله صلى الله عليه وسلم: «عُفي عن أمتي ما حدثت به نفوسَها ما لم تتكلم به أو تعمل به»، ووردت نصوص صحيحة تدلُّ على المحاسبة بأعمال القلوب كقوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} (سورة البقرة/ 284).. ولا تعارض بين هذه النصوص ألبتة، بل كلها دالٌّ على مراد الله بلا تنافٍ؛ وذلك أن الآية أثبتت الحساب والمسؤولية، وأما الأحاديث فنفت الكتابة في بعض الأحوال.. والحساب والمسؤولية يكونان في الآخرة، وكتابة الأعمال تكون في الدنيا؛ فالحال مختلفة، والوقت مختلف؛ فلا مجال لدعوى التنافي مع اختلاف الأحوال.. كما أن الأحاديث نصٌّ على عدم الكتابة في بعض الأحوال، ونصت النصوص الأخرى على أن الله لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وأن كل ذلك يُحصى في سجل الأعمال.. ونصوصُ الشرع واجبةُ التصديق كلُّها يُضم بعضُها إلى بعض ولا يُستنبط من بعضها دون بعض؛ فعلمنا أن كل شيء من أعمال القلوب مُسجَّل، وعلمنا أن الذي لا يُكتب في بعض الأحوال هو الإدانةُ فقط؛ فيُسَجَّل على العبد أنه همَّ بسيئة، ولكن لا يُسجل عليه جزاؤها بسيئة، وإنما يُسجل له عفو الله عنها.. هذا هو عمل الكرام الكتبة من الملائكة عليهم السلام في الدنيا بأمر ربهم؛ فإذا جاء يوم القيامة عُرضت صحائف الأعمال بما فيها من عفو أو إدانة؛ فَصَدَقَ بذلك مدلول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}، وفي نهاية الآية: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} (سورة البقرة/ 284). والله جلَّ جلاله في يوم القيامة يُحدث ما يشاء فيغفر لعبده برحمته، أو يقتص منه بعدله.. والعبد محاسب ومسؤول عن فؤاده بلا ريب لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (سورة الإسراء/ 36)؛ ومعنى المسؤولية أن يُسأل عن أعمال فؤاده، وأن تُسجَّل عليه أعمال فؤاده، وأن يُسجَّل عليه ما يؤاخذ به من عمل فؤاده، وأن يُسجَّل له ما عُفي له من عمل فؤاده؛ فصح بكلِّ ذلك أن عفوَ الله عن بعض أعمال القلوب بنصوص أخرى جزء من المسؤولية بالنصوص الأخرى.. ولا ينبغي أن نجعل أعمال القلوب عملاً واحداً؛ فنخلط بين ما عفا الله عنه في الدنيا، وبين ما لم يعف عنه فيالدنيا وأمر بتسجيله ليجازيَ عنه يوم القيامة بعدله أو يعفوَ عنه برحمته.. ووجدنا النصوص تقضي بالمحاسبة على أعمال القلوب بإجمال، ووجدنا استثناءاتٍ قليلةً في نصوص صحيحة؛ فوجب الوقوف عند النصوص، وأن لا نستثني أكثر مما استثناه النص؛ فهذا هو منهج أهل الفقه في الدين الذين يرفعهم الله درجات.. وبالنصوص الاستثنائية علمنا أن المعفوَّ عنه من أعمال القلوب ما لم يستقرَّ فيها؛ فتكونُ النيةُ عقيدةً ثابتةً من الخواطر وحديث النفس؛ فيدخل في ذلك الوسوسة.. وإذا استقر المحرَّم في القلب نية ثم أقلع عنه العبد فإننا ننظر: فإن كان عقيدةَ سوء فهي مسجلة عليه بإثمها؛ فإذا استبدلها بعقيدة حسنة فهي مسجلة له بأجرها.. ثم إن الحسنات يذهبن السيئات، والإسلام يَـجُبُّ ما قبله.. وإن كانت نية فلم ينفذها لشاغل دنيوي، أو لتعذُّرها فهي مكتوبة عليه سيئة؛ فإن تركها لأجل ربه فهي مكتوبة له حسنة، ويدل على ذلك الحديث الصحيح في قول الرب تبارك وتعالى: إنما تركها من جرائي.. وبهذه المناسبة أحذر من كلمة درجت على ألسنة بعض طلبة العلم، وهي قولهم: (من العصمة أن لا تقدر)؛ فقد فهموها على عمومها، وأنك إذا لم تقدر على فعل المعصية فقد سقط عنك وزرُ الهمِّ بها!
قال أبو عبدالرحمن: لا والله ليس هذا هو معناها، ولا يهمنا أن نعرف معناها ما دامت ليست نصّْاً شرعياً، ولكننا احتساباً للأجر نُبَيِّن معناها؛ لأنها صارت حكمة سائرة، فنقول: من العصمة أن لا تقدر بأن سلمت من اقتراف ذنب تؤاخذ به؛ فاحمد الله على أن تلك المعصية لم تتيسر لك.. وليس معنى ذلك أن الله عصمك من وزر العزيمة على فعلها، بل وزر النية باقٍ بحسبه، وليس عليه وزر عملٍ لم يعمله بَعْدُ؛ لأن ربك لا يظلم عباده وإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -