م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - أنتج عصر التنوير تيارات فكرية ومذاهب عقائدية ونظريات اجتماعية وفلسفات نقدية وحركات سياسية ومدارس في الآداب والفنون.. كما أنتج فلسفات في التاريخ والقانون والسياسة والعِقْد الاجتماعي والمساواة القائمة على الاشتراكية المثالية.. ورسخ مبدأ الذاتية القائمة على جعل الإنسان مركز الكون وأساسًا للحقيقة واليقين.. ومهد الطريق أمام ظهور المسرح الفكري وتطويره للفلسفة النقدية التي لم تستثنِ شيئًا في المجال العام من دين أو مجتمع أو قوانين أو فنون.
2 - في عصر التنوير ازدهرت حركة الترجمات إلى اللغات الأوروبية من اللاتينية.. وتطورت حركة النشر الأدبي والعلمي والفلسفي.. وبرزت بعض الأفكار التي تحولت إلى قيم يُدْعى إليها حتى اليوم مثل: الحوار، والمساواة، وحقوق الإنسان، والتسامح بين الأديان، وإعلاء عقلية الشك التي تحذر من الانسياق خلف الأفكار دون فحص والتسليم الأعمى لها.. الخلاصة أن التنوير أسس لقيام الثورة الصناعية في بريطانيا والثورة الفرنسية في فرنسا والتفكير الفلسفي النقدي الحر في كامل أوروبا.
3 - لو لم يكن للتنوير إلا ما حققه في الفقرة الأولى لكفاه، لكنه أيضًا أسهم في انبعاث الروح النقدية التحررية التي نقلت بالفعل المجتمعات الأوروبية من سكون القرون الوسطى المظلمة التي تدعو إلى الثبات وعدم الحركة والالتزام بما تقدمه الكنيسة، وتحريم كل جديد في العلوم والفنون وتطور المجتمعات، فنقلتها إلى روح تتطلع إلى المستقبل وتبحث عن الجديد في العلوم والفنون والآداب، روح شجاعة تقاوم أوهام وخرافات الكنيسة وتفتح آفاقًا جديدة في البحث والدراسة والمعرفة والاكتشاف واختراق المجهول.
4 - التنوير أوجد حالة انقلابية في كل مناحي الحياة العامة والخاصة، وخلق نوعًا من الصراع المحتدم بين الاتجاهات الفلسفية التي تراوحت بين المادية واللاهوتية والعقلية، كما أوجد صراعات عنيفة بين التيارات الإنسانية والليبرالية والشمولية على أساس أن الحق معها بالمنطق ذاته الذي ساد لدى رجال الكنيسة إبان العصور الوسطى.
5 - عبر التاريخ البشري، اقتصر التطور على الطبقات العليا من البشر والنخب من الناس، ولم يكن لعموم الناس اعتبار لا في الأنظمة ولا القوانين والأفكار سوى ما يسوسهم ويقودهم وليس ما يخدمهم ويحقق العدل لهم.. وكذلك لم يكن لهم من فكر الفلسفات وتعاليمها نصيب سوى أنهم لا يزيدون على أن يكونوا وقودًا للحروب وآلات للعمل والسخرة والاستعباد.. حتى أتى عصر التنوير وتكونت «فلسفة الجماهير» بينما كانت الفلسفة منذ (سقراط) فلسفة للنخب الارستقراطية الحاكمة، فلسفة الجماهير هيأت الأذهان ورفعت من القابلية للتغيير في الأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأصبحت مفردة العصر، وروح العصر وما يتلاءم معه من تقدم وتطوير والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح البشر هي الخطاب العام المتداول وارتهان الإنسان للطبيعة بدلاً من محاولة السيطرة عليها.