د. عيد بن مسعود الجهني
كان تأسيس الأوبك الذي يعد ثورة في عالم النفط في أواخر عام 1960، بعد مرور مئة عام على أول اكتشاف تجاري للبترول في العالم، وما بين تأسيس الأوبك وعام 1973 لم يكن للأوبك دور في تغيير مسيرة أسعار النفط الذي بقيت شركات النفط الدولية تسيطر عليه إلى حدٍّ كبير.
وقد طرأت مستجدات جديدة على الساحة النفطية تمثلت في وجود تنظيم مناوئ للأوبك وهي منظمة الطاقة الدولية (IEA)، جاءت الصحوة التي تزعمها مهندس السياسة الخارجية الأمريكية آنذاك هنري كيسنجر تزامناً مع أول ثورة لأسعار النفط حيث اقترح في ديسمبر 1973م على دولته وأوروبا ومعها اليابان تشكيل منظمة تتولى التخطيط لشؤون الطاقة وتتصدى للأوبك.
ولم يهدأ للرجل بال حتى ولدت المنظمة الدولية للطاقة التي تمثل الدول الصناعية OECD لترى النور في الخامس عشر من شهر نوفمبر 1974م حيث وقّع الأعضاء المؤسسون في اجتماع واشنطن الشهير إضافة إلى الدول الغربية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ميثاق تأسيسها، وعلى الفور وبالتحديد في الثامن عشر من شهر نوفمبر عام 1974م قامت المنظمة المتوثبة التي مقرها باريس للحد من هيمنة الأوبك بتحديد برنامجٍ واضحٍ أطلقت عليه (برنامج الطاقة الدولية) (International Energy Program).
وقد كان في مقدمة أهداف الوكالة في الدرجة الأولى ومع ارتفاع أسعار النفط في تلك الفترة من التاريخ النفطي مراقبة تغير أسعاره وتوقع تذبذباته وديناميكية الإمدادات التي تضمن استقرار سوق النفط الدولية، وفي رأينا أن الوكالة في الأساس أنشئت من أجل محاربة الأوبك وسياستها وقطع الطريق عليها حتى لا تتحكم في سياسات النفط إنتاجاً وتصديراً وتسعيراً.
وكان الدور الذي لعبته الدول الكبرى واضحاً فالتخطيط الذي وضعت أسسه في الاجتماع الوزاري لوكالة الطاقة الدولية في باريس عام 1979م وانتهى إلى وضع سياسة موحدة لمواجهة منظمة الأوبك التي حملها المؤتمر المسؤولية عن الاستمرار في زيادة أسعار البترول الخام، ولهذا أعد المؤتمر خطة تكفل تخفيض استهلاك دولهم من البترول واعتماد مصادر بديلة وتشجيع الاستثمار فيها وتطويرها كالطاقة النووية والشمسية والفحم والغاز الطبيعي والنفط الصناعي والطاقة الجوفية.
ذلك المؤتمر جاء بعده مؤتمر أهم في طوكيو بتاريخ 28 يونيو 1979م حضره رؤساء تلك الدول لإيجاد الحلول للمشكلات النفطية من أقطار الأوبك وتخفيض استيرادهم من النفط وتنظيم سوق النفط العالمية ثم العمل الجاد في سبيل تطوير مصادر الطاقة البديلة.
كما شجعت العمل على الاكتشافات النفطية في جميع مناطق العالم، واكتشاف حقول غاز جديدة في كثير من مناطق العالم، ومددت أنابيب لنقل الغاز الرخيص إلى مناطق الاستهلاك المهمة.
وفي زمن الرخاء النفطي في الثمانينيات والتسعينيات من قرن النفط المنصرم قدمت رؤاها ومقترحاتها وتنبؤاتها لحاضر ومستقبل النفط، وتغلبت على أزمات أسعار النفط في ثورته الأولى 1973 ثم في طفرته الثانية تزامناً مع الثورة الخمينية 1979 ثم اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية لسنوات ثمانٍ، ثم حرب احتلال الكويت، ناهيك عن حرب احتلال العراق.
ومن يدقق في رحلة سياسة الوكالة قبل وبعد مؤتمرها الهام في العاصمة اليابانية طوكيو بتاريخ 28 يونيو 1979 الذي نوهنا عنه، يتضح له أن تلك المنظمة التي تقدم النصح لأعضائها المستهلكين الرئيسيين للنفط، ركزت أهدافها على التعاون مع الدول المنتجة للنفط خارج الأوبك.
ليس هذا فحسب بل إنها جعلت من مقدمة أهدافها إيجاد بدائل للنفط (الأحفوري) وأهم تلك الأهداف التخطيط ليصبح أعضاء (IEA) على أهبة الاستعداد ضد أية طوارئ ينتج عنها توقف الإمدادات النفطية، ومراقبة تغير الأسعار وديناميكية الإمدادات.
ورغم أن وكالة الطاقة الدولية كانت شوكة في نحر الأوبك خاصة في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، ورغم (أيضاً) أن المنظمة اعتبرها الكثيرون من الخبراء أنها (مستودع) معلومات الطاقة الذي لديه (سحر) إدراك حاضر ومستقبل الأسعار والإمدادات على مستوى العالم، إلا أن المنظمة في رأينا وقعت في فخ أخطائها لماذا؟
لأنها وهي تخطط للخروج عن عباءة الأوبك ذهبت بعيداً في تطبيق تنويع مصادر إمداداتها من النفط والغاز، ولقرب روسيا من القارة الأوروبية لم يدر بخلد ساسة النفط والغاز في تلك الدول يوماً أن (الرماد) قد يصبح ناراً، فمع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا الجارة انفضح المستور، وليس أمام أوروبا سوى محاولة عدم الاعتماد على النفط والغاز الروسي، معاقبة على هجوم ذلك البلد على جارته أوكرانيا.
لكن من الذي وضع دول أوروبا في هذا (المأزق) الخطير؟ إنهم المسؤولون عن الطاقة في تلك الدول فهم الذين خططوا للوقوف في وجه الأوبك التي كانت ولا زالت تدعم استقرار سوق النفط الدولية ولا علاقة لها في الصراعات الدولية، فهي تملك سلعة النفط والغاز وتبحث عن المشترين (ولا ناقة لها ولا جمل) في أي نزاع أو صراع أو حتى حروب تدور رحاها في الدول المستهلكة.
دول أوروبا اليوم بسبب (هروبها) من النفط الذي تصدره الأوبك إلى حدٍّ كبير، اعتمدت على نفط وغاز دولة واحدة (روسيا) وهذا خطأ كبير استراتيجي خرج من رحم دول متقدمة في العلوم والتكنولوجيا، وهذه الدول ترتكب (المحظور) معتمداً إلى حدٍّ كبير على دولة واحدة في إمداداتها من الطاقة، وهذه (كبوة) لا تقع فيها دولة فقيرة من دول العالم الثالث، في زمن ينتج فيه النفط في أكثر من (100) دولة حول العالم.
ولذا كانت وارادات النفط الأوروبي من روسيا تبلغ أكثر من (4.5) مليون ب/ي، ناهيك عن الغاز الذي تنقله الأنابيب إلى القارة العجوز، وأن الغرب على ما يبدو يسعى إلى تطبيق سياسة المقاطعة الكاملة لمصادر الطاقة الروسية مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا وقد تمتد المقاطعة إلى الفحم الروسي، ومن جانبه الرئيس بوتن قد يطبق سياسة حظر تصدير الغاز إلى أوروبا.
هذا بعد أن نجح السيد بوتن خلال سنوات عديدة في إقناع دول الاتحاد الأوروبي أن تعتمد بشكل كبير على إمدادات الطاقة من بلاده تخطيطاً منه لتصبح دول أوروبا (رهينة) الطاقة الروسية، وقد جاءت وكالة الطاقة الدولية متأخرة لتعلن أن السيد بوتن قد يوقف ضخ الغاز بشكل كامل إلى أوروبا خلال عدة أشهر، وهذا قد يحدث فروسيا رغم العقوبات (الرهيبة) المفروضة عليها حققت إيرادات كبيرة من مبيعات نفطها وغازها، فدول مثل الصين والهند حلت محل دول أوروبا كمشترين للنفط الروسي وقد تحصل على (خصومات) في ظل ارتفاع أسعار النفط.
روسيا تملك ثروة هامة يبحث عنها المشترون شرقاً وغرباً، وإذا ما استمر الصراع الروسي - الأوروبي وتوقفت إمدادات النفط والغاز أو انخفضت بشكل كبير فإن هذا قد يلحق أضراراً مالية كبيرة في قطاعات الصناعة الأوروبية ومنها صناعات الصلب والكيماويات وغيرها التي سيتدنى إنتاجها بل وسيصبح مكلفاً، وسيمتد الأثر السلبي إلى معظم الصناعات الأخرى.
وهذا سببه خطأ أوروبي ممثلاً بوكالة الطاقة الدولية، وكما يقال (غلطة الشاطر بألف) بذلوا جهداً كبيراً منذ زمن لتستمر للحد من (قوة) أوبك وبحثها عن البديل، حتى أنهم استبعدوا (مثلاً) الجار القريب (الجزائر) عضو الأوبك إلى حدٍّ كبير، واتجهوا إلى روسيا بنفطها وغازها بعيداً عن الأوبك.
وجاء اليوم التاريخي لتدفع القارة الأوروبية وممثتلها (IEA) الثمن.
وها هي نتيجة حساباتها الخاطئة تبحث عن من ينجدها للخروج من (ورطتها) الكبرى.
لتجد لها مخرجاً فالنفط والغاز يبحثان عن مشترين.
وأوروبا عليها إعادة ثقتها بالأوبك فهي الجواد الرابح دائماً بكل السباقات.
والعبر والدروس النفطية التي تعيشها أوروبا اليوم وهي تدفع ثمنها، عليها وضع الخطط والإستراتيجيات لتجنبها في المستقبل.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة