ابن العشرين سنة غادر إلى أمريكا متسلحًا بدعم معهد الإدارة كأحد المميزين لدراسة الحاسوب قبل 43 سنةً، كان هذا المجال نادر الدراسة بين الدارسين بل إنّ هذا الاختصاص كان مجهولًا عند كثير من البشر، تخرج فيه متميزًا، طار طموحه بتفكير شاطح لينشئ مؤسسة خاصة في البرمجيات، سابقًا بذلك التفكير السائد في مجتمعه. كان من زملائه الذين اتّكأ عليهم زميل من الجنسيّة الفلبينية، قادهما التفكير في أن يكون مقرّ مشروعهما في مانيلا عاصمة الفلبين لتوافر اليد العاملة، ورخص أجورهم، توجها للفلبين لقياس مدى نجاح الفكرة ومدى تكاليفها، جمع ما عنده من أموال، باع ما تحت يده من ممتلكات، وتوجه وفي ذهنه كثير من الأفكار السابقة لعصره، استقر في مانيلا، واستلطف أهلها وشعر بأنّ العمل فيها ملاذٌ جميلٌ كان يبحث عنه.
بدأ مشوار العمل مع شريكه، دفع ما يملكه في تحدٍّ مع الفشل، سابحًا في محيط لا ساحل له، تتلاطمه أمواجه، ترفعه وتخفضه مع إصرارٍ يهد الجبال، وحياة سرقت منه الزمن.
وجد نفسه بعد بضع سنوات يخسر ما جمعه، إضافةً إلى سنين لم يحسب حسابها، وجد نفسه قد تجاوز الأربعين من عمره بلا نجاح يذكر، خسر رفيقه وكلّ من أحبّهم وأحبوه.
عاش بين صراعين؛ التحدي الذي بداخله، ورغبة أهله ومحبيه في عودته، وبناء حياة جديدة بقربهم، إلا أنّ الاستمرار في التحدي كان هو المنتصر، بعيدًا عن مؤثرات الأهل وعواطفهم، متجاهلًا ما أصابه من تعثرات تكسر الأعناق، وتنهك الأبدان، فجهّز نفسه لبداية جديدة من العناء لا يعلمها إلا الله.
بلغ به التحدي أن يعيش على أقل حال يمكن أن يقبل بها إنسان طبيعي في سبيل تحقيق طموحه وألا يدون الفشل في سجله الحياتي، عاش متخبطًا في قراراته، ينعشه الأمل الذي بداخله تخرج بامتياز في دراسته متفوقاً على كثيرين من أقرانه، لا يجب الاستسلام لهذه الكبوات، هذا ما كان يدندن به في أعماق نفسه، إنه أملٌ يقوده وواقع مؤلم يقف في وجهه.
انسحبت سنين أخرى لم يشعر بها، هدت كلّ ما لديه من تحدٍّ وأمل وأصبح يفكر في ما هو أسوأ؛ كيف لي بعودة إلى بلدي وأنا قد فشلت في كلّ شيء، نعم كلّ شيء، لا مال، ولا عمل، ولا مستقبل، كيف لي أن أعيش بين زملائي ومكانتهم تجاوزتني، لا لن أعود هكذا قرر!
أمام هذا التحدي قبل أن يعيش منفردًا بعدما خسر أمه الحنونة التي تحلم برؤيته قبل وفاتها فجال في نفسه، ألا شيء يستحق العودة بعد وفاة الأم الغالية، سأكمل حياتي كيفما سارت بي الأقدار.
لن أكون عبئًا على أحد حتى وإن كانوا إخوتي الأعزاء هذا قراره الذي اتخذه بعد أن تجاوز عمره الخمسين عامًا! اتّخذ الحياة اليومية زادًا له لكي يتجاوز عدد الأيام، ولا يأبه لمرورها، تمرّ المشاهد سريعة تعثر في كلّ شيء وبعد أن ثقلت موازين تفكيره وأعيته الحيل، ولا عاد يشعر بطعم الحياة التي يعيشها قرر العودة إلى بلاده في محاولة لتصحيح وضعه النظامي في بلد عشقها على الرغم من مرارة العيش فيها، وما وجده فيها مِنَ الصدود، ولم تعد ترحب به.
بعد هذه السنين وهذه التضحية جال في خاطره أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويعود إلى أهله ومحبيه وينسى مامضى وكأن شيئًا لم يكن. قرر العودة لعل هذه العودة المتأخرة تلملم بعض جراحاته النفسية والاجتماعية والمالية وتعيد إليه بعض ما فقده في حياة الغربة، وتكون خاتمته أفضل من بداياته.
جمع أمره وأصلح وضعه ونقل نفسه إلى بلاده رغم ما مر به من مشكلات إلا أنه تغلب عليها وجاهد نفسه للقبول بالوضع الجديد.
وصل إلى أرض الوطن بين حفاوة من الأهل والمحبين لم يتوقعها، عاش الأيام الجميلة التي استمرت بضع سنين، شعر بأن لا شيء قد تغير في حياته إلا أنه بين إخوانه.. لا عمل، ولا زوجة، ولا بيت، ولا أبناء.
لن أعيش منكسر الخاطر ولن أعيش والنظرات تطاردني من الجميع هذا شعوره طول بقائه في بلاده.
بدأ التفكير من جديد للعودة إلى البلاد التي أحبها رغم قسوتها وأهم شيء فيها أن لا أحد يعرف من أنا.. ولا ماذا أعمل.. وماذا في يدي أو في جيبي.. سوف أعود ولو كانت عودتي مكلفة، أنا فيها لا عارف ولا معروف أعيش فيها ما حييت وبطاقة العودة إلى بلادي في يدي متى شئت..
هكذا أقنع نفسه بالعودة إلى مانيلا التي أعطاها كلّ شيء وأخذت منه حياته ولم تعطه ما يطمح له.
سافر إلى حيث اشتهت نفسه رغم أن زاده ضعيف قرر الرحيل ليجد أن مانيلا ليست كما كانت ولا الناس كما تركهم، كلّ شيء قد تغيّر.
ذهب لمن أحب ولم يجد عندهم الحُبّ، ولا الترحيب.. صُدم من هذا النكران، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، خرج هائمًا على وجهه متسائلًا في نفسه كيف هذا الجحود؟ وهذه المعاملة التي لم يتصورها يومًا حتى في أفظع كوابيسه.
هذه الصدمة أوجعت قلبه وأخذت من صحته، استقر به المقام في فندق متواضع لعل وعسى يتغير الحال وتعود الأمور إلى ما يحب.. إلا أن هذا العودة تبخر شذاها.
نعم أنا من أوصل نفسه إلى هذه الحالة الرديئة، أنا من سمح لها أن تدخل حياته، أنا من تحدى الواقع ليقبل المجهول هذه ترانيم يرددها على نفسه يوميًّا.
ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، تجمعت أوجاع وهموم ضاق بها عقله ونضب تفكيره أحس بأن الأرض لم تعد تحمله، سقط من أوجاع في رأسه لا يمكن تحملها.
لم يحس بنفسه إلا وهو على سرير أبيض حوله أجهزة عن يمينه وعن شماله تذكر آخر حديث مع نفسه عرف أثر هذه الآلام وهذه الهواجس، قرر أن يمسحها من ذاكرته تحسنت حالته وتماثل للشفاء وخرج من المستشفى ليجد نفسه تحدثه بأن الهزيمة لا يمكن أن تستمر وأن التغيير أمر لازم حتى لا يتصور من صدمني أني أسير له لا بدّ أن أجعل منه مسخًا وأن أنتصر عليه ولا يهزمني بتحوله عني وأن يعرف أني مازلت قويًّا وقادرًا على السير وفق قراراتي ومشيئتي لا أحد يستطيع هزيمتي هكذا قرر أن تكون الجولة القادمة.
خرج من المستشفى بروح غيْر السابقة وأعد نفسه للتحدي الجديد مبتهجًا لفضل ربه الذي أعاد إليه حاله مرددًا أذكارًا لا ينفك عنها لسانه طول حياته مستقويًا بها على أحواله المرة التي يعيشها.
بدأ يعمل على خطط جديدة ولاعبين جدد إلا أن الوضع لم يعد مثل السابق، العمر، والقدرة المالية.. من لي بمن يقبل بي بهذا الوضع؟.. وهذا الكيان الضعيف!.. يا الله كل شيء تغير كل من أعرف لم يعد مثل ما كان، الكل في شأنه دائر وحيران بين همومه، وحاجاته ورغباته، وهواه، ولا أحد يقدّر حاجة الآخر، ولا يفكر في مساعدته، ما هذه الدنيا التي غيرت طباع هؤلاء البشر، أصبحت الدنيا لا تطاق، كيف لي بالعيش بينهم؟ وأنا المتسامح مع الكل، كل ما أستطيعه أقدمه لمن يحتاجه.. لا لا هذه الأوضاع لا تطاق، رأسي لا يتحمل هذه الأمور، بدأت أحس بغثيان هل هو من الأكل الذي أكلته في المطعم العربي أم من هذه الصدمات المتتالية على نفسي ياالله نجني من ألمي!
هذه التمتمات التي ختم بها هذا المشهد المؤلم، ووقع على الأرض مدة ساعات لا يعلم به أحد حتى الصباح.. طرق عليه عامل النظافة وكانت آخر غرفة يجب تنظيفها قبل انتهاء دوام عمله، وكان لطفه مع العمال دافعًا لحرص عامل النظافة أن يعتني بغرفته.. دخل عليه الغرفة وإذا به يجده مسجى على الأرض لا حركة يستطع فعلها غير أن نفسه يتردد بين صدره وعنقه بشكل ضعيف، استدعى المسؤولين في الفندق وهبوا لنجدته وأخذ إلى المستشفى على وجه السرعة، أدخل العناية لرفع قدرته التنفسية، ومعالجة ما عطب من جسده.. تلاحقت الأجهزة على جسده حتى تكتشف ما حل به وحوله الأطباء في محاولة إنقاذه.
بدأ نفسه في العودة إلى طبيعته ونبضات قلبه للعمل بشكل مقبول، ومازالت الأجهزة تحتل جسده بهدف رفع قدرته الصحية والعودة إلى واقعه الطبيعي.
مرت الساعات واليوم الأول والثاني والثالث وهو على هذه الحال، لا قريب ولا صديق بالقرب منه هو وحده يواجه وضعه إلا من اتصالات مع المستشفى والسفارة وأهله. الكل متفائل بتجاوزه الأزمة، وتمر الأيام متجاوزة العشرة أيام، والحال كما هي لا جديد في تحسن حالته.
ومن ناحية أخرى، كان أهله على تواصل مع الجهات الرسمية لنقله إلى بلاده وفي انتظار سرير من أحد المستشفيات لكي ينقل إلى بلاده، ولا يمكن أن ينقل إلا بتأمين سرير يضمن علاجه.
كل هذه المدة وأهله بين شد وجذب لا أحد منهم يستطيع السفر إليه، لمرض بعضهم وعجز آخرين، والكل يتطلع لمجيئه في أي وقت، كل يوم يمر والجميع يبذلون قصارى جهدهم في الاتصال بمن يعرف لتسهيل مجيئه. وبعد هذه الجهود المباركة من الجميع يحصل على موافقة كريمة من أحد المستشفيات في العاصمة، وانفرجت أسارير الجميع، وحمدوا الله على ذلك الفرج وبدأ التطلع لإرسال طائرة الإخلاء الطبيّ لنقله إلى بلاده. متى يكون هذا؟.. كلّ أهله يتطلعون إلى ساعة مجيئه.. لا أحد قادر على الانتظار الكل يتطلع لنقله المسؤولون ومن تحتهم والأهل في شوق لوصوله.
زاد قلق الأهل نظرًا لتدهور حالته، في كل استفسار عنه يقال لهم فيه كذا وكذا حصل له فشل كلوي، حصل له التهاب رئوي، حصل له شلل في بعض الأعضاء، التوتر سيد الموقف، حالة الأهل تزداد سوءًا لما يشاهدونه من تدهور حالة ابنهم ولا يمكنهم فعل شيء.
مضت عشرة أيام كاملة على دخوله المستشفى وحالته تتدهور بصورة سريعة دون تغيّر في واقع الإجراءات البيروقراطية المملة التى تشي بضعف الأداء والبطء في التعامل مع مثل هذه الحالات. من قبل الأطباء حتى وإن كانت المستشفى المختارة من قبل السفاره ممتازة.
في بعض الدول يتعاملون مع مثل هذه الحالات ببطء شديد في الإجراءات الإسعافية والعلاجية رغم متابعة المسؤولين في السفارة وبذلهم كل ما في وسعهم لمعالجه هذا القصور.
جاء صباح يوم الأربعاء الماضي الذي ينتظر فيه الأهل استقبال ابنهم بعد هذه المعاناة من الصبر والانتظار المقلق .. يسفر هذا الصباح عن وجه كالح السواد بخبر وفاة ابنهم الغالي الذي عاش حياة مليئة بالأحداث حتى آخر ساعات حياته.
جاء خبر وفاته كصاعقة أحرقت كلّ أمل فيهم، دخلوا في معركة أخرى تتمثّل في كيفية نقل الجثمان إلى بلاده؛ ليدفن فيها.
كانت كل الإجراءات تتسابق لنقله إلى بلاده من قبل المسؤولين أجزل الله مثوبتهم، مراعين حرمة الميت، إكرام الميت دفنه لكنه لم ينقل حتى تحرير هذه الرواية ونشرها.
لك الله يا فهد بن محمد الزامل.
ما يشفع له أن عذاباته التي عاشها مقدّرة عند ربه، عاش مبتسمًا على الرغم من قساوة حياته، ومات مبتهجًا بلقاء رب غفور رحيم.