الأدبُ يثير الاستفسارات ويطرح التساؤلات، والجدل يظل قائماً يدور حول مواضيع عدة، على مدار التاريخ... والقارئ الجيد والمحب للأدب يلاحظ بعض المفارقات والمصادفات العجيبة التي تثير استغرابه ودهشته... وقد أعيت هذه المصادفات النقاد وأنهكتهم بالبحث والتمحيص في كثير من المواضيع الأدبية.
ومن المواضيع التي تناولتها البحوث وتتبعها النقاد هو ذلك الالتقاء العجيب في بعض ما تحويه «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، الذي عاش في العصر العباسي، ويعدّ من أهم الأسماء الأدبية واللغوية في ذلك العصر، و»الكوميديا الإلهية» للشاعر الإيطالي دانتي...
تتحدث «رسالة الغفران» و»كوميديا» دانتي عما بعد الموت، وعن الجنة والنار، وتسردان قصصاً في ذلك العالم جمح خيال الأديبين الشاعرين في صياغتهما، فالنصان يدوران حول فكرة واحدة متشابهة.
وهنا تضاربت أقوال النقاد في تفسير هذا الالتقاء، فمنهم من رأى أن دانتي أخذ فكرة «الكوميديا الإلهية» من «رسالة» المعري، من طريق الترجمة التي وصلت إلى يَد دانتي، وأعجب بمضمونها، فاستوحى فكرة كتابه «الكوميديا» منها.
والرأي الثاني قال: إن هذه المصادفة طبيعية، إذ إن دانتي اطَّلع على كتب إسلامية تتحدث عن الآخرة والجنة والنَّار، واستقى منها فكرة «الكوميديا».
والرأي الأخير يرى أن هذا الالتقاء كان مجرد صدفة وتوارد خواطر، وهذا يحدث في الأدب كثيراً.
من خلال قراءاتي لرسالة الغفران للمعري، والكوميديا الإلهية لدانتي، أرى أن هذا الالتقاء لم يكن صدفة أو من باب التوارد، على رغم إيماني بموهبة دانتي العظيمة، وكذلك فإن جميع الآراء والأحكام السابقة التي طرحها النقاد، لا أحد يستطيع الجزم بدقتها وصحتها، إلا أني أميل مع القول الذي يرى أن الشاعر الإيطالي قد اطَّلع على الثقافة الإسلامية، من خلال بعض الكتب المترجمة، أو من خلال ما نُقِل إليه عن الجنة والنار والآخرة في التراث الإسلامي، وربَّما كان محباً للثقافة الإسلامية، فوجد فيها ما يلهمه، فتوسع في قراءته وتأثر بما قرأ، ومن الطبيعي أن تنعكس صورة ثقافة الشاعر وقراءاته في نتاجه، فكتب «الكوميديا».
والشاعر الإيطالي دانتي يعدُّ من الأدباء الذين أثْرَوا الأدب العالمي بنتاجهم الأدبي، وهذا ما يجعلنا نستبعد إلى حدٍّ ما أخذه فكرة «الكوميديا الإلهية» من «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعرى، وأنه أراد فقط أن يحاكيها كما هي.