حينما عدت من الغربة متأبطًا شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي وشيئاً من الذكريات السعيدة، وغير ذلك في بعض الأحيان باشرت أستاذاً للنقد والأدب في كلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز، وكنت منتشياً بذلك المكان لأني عملت عليه معظم أيام عمري، وكنت أحلم به، وتحقق ذلك الحلم.
وكان في قسم اللغة العربية الذي أنتمي إليه زملاء أعزاء، ولكني كنت قريبًا جدًا من اثنين منهما عبدالله الغذامي وعبدالمحسن القحطاني، وفي ليلة شتوية دافئة من ليالي جدة هاتفني الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي، قائلاً: سوف أعرفك على رجل رائع خلقاً وأدباً، ونتناول عنده العشاء الليلة، فبادرت صديقي العزيز الدكتور عبدالله قائلاً إني أجد صعوبة في الذهاب إلى رجل لا أعرفه ولا يعرفني، فرد صديقي قائلاً: هذا رجل يحتفي بالأدباء والمثقفين وهو الشيخ عبدالمقصود خوجة ابن الأديب المعروف محمد سعيد خوجة، صاحب كتاب الأدب الحجازي، وشارك الأستاذ عبدالله بالخير في كتاب وحي الصحراء، وذهبنا إلى بيته القديم بعد صلاة العشاء، فقابلنا عند الباب ضاحكاً مستبشراً متهللاً، واحتفى بي احتفاءً خاصاً، حتى ظننت أنني أعرفه منذ زمن طويل، فذكرني ببيت زهير (تراه إذا ما جئته متهللاً)، ثم بعد ذلك بدأت الأمسية، وكانت تكريماً للأستاذ أحمد عبدالغفور عطار -رحمه الله-، ويديرها الأستاذ حسين نجار -شافاه الله-.
وقد حفلت تلك الأمسية بحضور لفيف من الرواد أمثال عزيز ضياء، وعبدالله بالخير، ومحمود عارف، ومحمد حسن فقي، وغيرهم، وتعرضت الأمسية لبعض الجهود التي بذلها المؤلفون في خدمة اللغة العربية، وأدليت بدلوي مع المعلقين وأصحاب الرأي في تلك الليلة، ثم توالى حضوري للاثنينية من ذلك الوقت، وكان الشيخ عبدالمقصود يحرص على حضوري وحضور أمثالي من شداة الأدب والثقافة، فيتصل بهم شخصياً في كل مناسبة.
وهنا أريد أن أركز على مساهمة الاثنينية في تحريك الأدب والثقافة في ذلك الوقت، وأمسيات الاثنينية عنوانها تكريمي، ولكنها في واقع الحال ندوات أدبية وفكرية وثقافية رائعة، وتطرح فيها الآراء العميقة والرؤى المتميزة، مما أثرى الساحة الأدبية والثقافية في ذلك الوقت، وهو ما كان يهدف له الشيخ عبدالمقصود، فأصبحت الاثنينية منبراً حياً ونبراساً متوهجاً في مسالك الأدب والثقافة، حتى أعلم أن كثيراً من الباحثين وطلاب الدراسات العليا، يعتمدون على ما يطرح في الاثنينية في كتبهم ورسائلهم للماجستير والدكتوراه.
وكان الشيخ عبدالمقصود يسعى حثيثاً إلى استقطاب الأدباء والكتاب من داخل المملكة وخارجها، مما أدى إلى انتشار الاثنينية في العالم العربي والإسلامي.
وأذكر أنه جاء بنفسه إلى الرياض كي يدعو الجواهري حينما كان مشاركاً في الجنادرية، فحضر الاثنينية، وكانت أمسية رائعة لهذا الشاعر الكبير، وهناك ملمح محمود يعود فضله إلى الشيخ عبدالمقصود، وهو اهتمامه بطباعة كتب الرواد والكتب التراثية، مما أثرى به المكتبة المحلية والعالمية في هذا المجال، ويبذل المال بسخاء في وقت يضن به أصحاب الثروة.
رحم الله الوجيه عبدالمقصود خوجة كما كنا نلقبه رحمة واسعة، وكتب جميع ما بذله في سبيل العلم والاهتمام بالعلماء في ميزان حسناته، وغفر له مغفرة الشهداء والصالحين.
وأقترح على نادي جدة الأدبي الثقافي أن يقيم أمسية احتفائية بهذا الرمز الثقافي الوطني. وهناك مواقف بيضاء للشيخ عبدالمقصود في دعم نادي جدة الأدبي الثقافي، أعلمها علم اليقين، حينما كنت عضواً في مجلس إدارة النادي.
* * * * *
- أ.د. عبدالله المعطاني