محمد سليمان العنقري
أثبتت الأزمات المتلاحقة الحالية منذ بداية جائحة كورونا قبل عامين وما تبعها من تداعيات اقتصادية تعززت سلبياتها بالحرب الروسية على أوكرانيا أن النفط سلعة لا يمكن أن تفقد مكانتها كأهم مصدر آمن للطاقة، بعكس ما تم الترويج له منذ سنوات بأن العام 2020 سيشهد ذروة الطلب على النفط الذي يعد المغذي الحقيقي لجسد الاقتصاد العالمي وترياق الحياة له، وما أزمة الطاقة التي تعيشها أوروبا تحديداً والعالم معها بنسب متفاوتة إلا نتيجة لأخطاء وقعوا فيها بسبب الخلل في سياساتهم بمزيج الطاقة التي انتهجوها حيث كان الاتجاه لزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة وتقليص الاستثمارات بالنفط والغاز بنسب كبيرة جداً، لكن النتيجة كانت مخالفة لتوقعاتهم وأصبحوا يبحثون عن مصادر الطاقة من مختلف دول العالم، فاقتصاداتهم مهددة بتراجعات حادة بنشاطها نيجة أزمة الطاقة بعد العقوبات التي فرضوها على روسيا المزود الرئيسي لاحتياجات أوروبا من النفط والغاز، وذلك لدفعها نحو إيقاف حربها على أوكرانيا.
ويمكن القول إن الاقتصاد العالمي لم يشهد أزمات معقدة ومتداخلة كما يحدث حاليًا، فالتقلبات بالتوقعات الاقتصادية أصبحت تصدر شهرياً وليس بفترات أطول نتيجة التطورات الجيوسياسية عالمياً من جهة والنقص بسلاسل الإمداد الذي كان أحد تداعيات أزمة كورونا من جهة أخرى، ولم يسلم النفط من هذه التوقعات المتباينة أيضاً فقد أصبح دور المضاربين في السوق سلبياً ولا يعطي انطباعات دقيقة عن واقع الطلب بالسوق، ويحاولون توظيف أي حدث أو خبر للاتجاه الذي يصب في مصلحتهم مما أدى لتقلبات حادة شهدها العالم بالشهور الستة الماضية، إذ يكسب أو يفقد سعر النفط عشرين بالمائة خلال أسبوع واحد، وهي تقلبات حادة ترهق ميزانيات الدول المستوردة وقطاع الأعمال والمستهلكين أيضاً، إذ يصبح من الصعب تقدير تكاليف الطاقة أو قراءة الأسعار للمستقبل المتوسط والبعيد وليس قصير الأمد فقط، ولعل من أهم ما صدر من تصريحات حول ما يحدث في سوق النفط هو حديث وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان قبل أيام قليلة حيث أوضح خطورة الانفصام الموجود بين السوق الفورية والسوق الآجلة وما يتم من إعطاء انطباعات خاطئة حالياً عن الطلب بالسوق إضافة لنقص السيولة، وأن كل هذه الإشارات الحالية ستعطي إحساساً خاطئاً بالأمان، فالتصريح شمل نقاطًا في غاية الأهمية حول ما يدور في أسواق النفط، فمن المعروف والمؤكد أن العالم يقترب كثيراً من أن يكون حجم الطلب على النفط مقاربًا أو مساويًا لحجم الإنتاج العالمي بما في ذلك الطاقة الإنتاجية الاحتياطية، أي أن عدم ضخ استثمارات من بعض الدول التي لديها ثروة نفطية أو شركات نفط عالمية تحديداً لدى الغرب الذي قلص كثيراً تمويل إنتاج الوقود الأحفوري وبعضهم أوقفه تماماً سيؤدي لتقلص نمو الطاقة الإنتاجية مستقبلاً، بينما فقط دول أوبك التي تقوم بضخ استثمارات بالاستكشاف والتنقيب والإنتاج ولكنها لن تتمكن من تلبية الطلب المتزايد سنوياً إلى ما لا نهاية، وهو ما سيعني احتمال حدوث شح بإمدادات النفط بعد سنوات ليست بعيدة مما سيرفع الأسعار لمستويات غير مسبوقة، كما أن السياسات النقدية للبنوك المركزية العالمية التي تقلص حجم السيولة بالأسواق لمواجهة التضخم المرتفع لها أثر سلبي مستقبلاً لأنها تسهم بعدم واقعية الأسعار، فمن المعروف أن التقلب الحاد في أسعار أي سلعة يضعف توجه الاستثمار لها بكل المراحل وصولاً للإنتاج، وذلك لأن الممولين لن يقدموالى قبول أي طلب تمويل في سوق شديدة التقلبات خوفاً من التعثر بالسداد، فهي سياسة تحوط من المخاطر متبعة في المؤسسات التمويلية عالمياً بينما لن يبقى في السوق إلا المنتجون منخفضو التكلفة.
فحالياً يروج المضاربون بالسوق بأن تراجع نمو الاقتصاد العالمي سيخفض الطلب على النفط وكذلك يعتقدون بأن العودة للاتفاق النووي مع إيران سيعني ضخها لأكثر من مليون برميل إضافي مما سيغرق الأسواق بكميات كبيرة من النفط بحسب ما يروجون له، لكن الحقيقة أنهم يعلمون بالتفاف إيران على العقوبات وأنها تصدر كميات كبيرة من طاقتها التصديرية قبل انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، فبعض التقارير تشير إلى أنها تصدر حوالي 1.3 مليون برميل يوميًا، وهي نسبة كبيرة من حجم صادراتها قبل تشديد العقوبات عليها بل قد تكون فعلياً تصدر أغلب قدرتها التصديرية بالتفاف مارسته على مدى سنوات طويلة من العقوبات عليها، وبافتراض أنها ستضيف كميات من النفط للسوق إلا أن ذلك لن يحدث قبل شهور عدة حتى يتم إعادة تشغيل الحقول المتوقفة وإجراء العديد من أعمال الصيانة ومتطلبات التشغيل، فإيران أيضًا ستحرص على عدم حدوث هبوط حاد بالأسعار لأنها تعاني اقتصادياً وشعبها ينتظر هذا الاتفاق على أمل أن يحقق له خروجاً من مستنقع الفقر. وبالمحصلة لا يعني ضخ أي إنتاج متعطل لإيران بنهاية المطاف إضافة أي زيادة بالطاقة الإنتاجية العالمية للمستقبل القريب، فقدرة إيران الإنتاجية محسوبة في إجمالي القدرة الإنتاجية العالمية، أي أن شح الإمدادات سيبقى احتمالاً وارداً بقوة حسب المعطيات الحالية للسوق، كما أن أوبك بلس قادرة على التعامل مع مختلف ظروف السوق، وفي هذا الصدد قال وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان «لقد أصبحت مجموعة أوبك بلس أكثر التزاماً ومرونة، كما أن لديها وسائل ضمن إطار آليات إعلان التعاون تُمكّنها من التعامل مع هذه التحديات وإرشاد الأسواق، وتشمل هذه الوسائل إمكانية خفض الإنتاج في أي وقت وبطرقٍ مختلفة، وهو ما أثبتته مجموعة أوبك بلس مراراً وبوضوح خلال عامي 2020 و2021م»، أي أن استقرار الإمدادات وتوازن السوق ستبقى هي الإستراتيجية التي سيحافظ عليها هذا التحالف القوي لأوبك بلس وهو ما يخدم الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط والبعيد بشكل أساسي والقريب أيضاً، فمن المهم أن تعكس السوق أسعارًا عادلة ومناسبة لأوضاع الاقتصاد العالمي والطلب على النفط الذي يتزايد بأسرع من الزيادة بنمو العرض والطاقة الانتاجية الاحتياطية وبما يسمح أيضاً باستمرار ضخ الاستثمارات بقطاع النفط لزيادة الاستكشاف والإنتاج.
فقد أكد سمو وزير الطاقة أن أوبك بلس تحضِّر لاتفاق جديد من بداية العام القادم سيكون أكثر فاعلية، كنتيجة طبيعية لما تراكم من خبرات من الاتفاق الحالي وما مر من أزمات عالمية، أي أن استقرار صناعة النفط وتوازن السوق سياسة ثابتة لدى هذا التحالف القوي الذي يسجل له بأنه خدم الاقتصاد العالمي في أصعب الظروف التي مر بها لضمان إمدادات الطاقة، لكن تبقى الكرة ليس في ملعب المصاربين بأسواق النفط التي يقع مقر أهمها وأكبرها بالدول الغربية فقد يقعون بخسائر كبيرة نتيجة إشاراتهم الخاطئة عن السوق النفطية بل سينتقل الضرر بأكبر مما هو قائم حالياً للدول الغربية نفسها إذا لم تتعامل بواقعية مع احتياجاتها من الطاقة وضرورة إعادة النظر بسياساتها بمزيج الطاقة التي ثبت خللها وكذلك بإجراءاتها سواء في سياسة ملف المناخ أو الأنظمة المتعلقة بالاستثمار بالوقود الأحفوري للحفاظ على اقتصاداتها من مخاطر التضخم، فالتوقعات للبنوك العالمية تشير بأن أسعار النفط ستبقى بمتوسط 120 دولارًا للعام الحالي والقادم، أما ما بعد ذلك فهو يتوقف على واقعية تعامل الغرب مع مزيج الطاقة، فالاستمرار بالأنظمة والتوجهات الحالية من قبلهم ستعني ارتفاع الأسعار لمستويات عالية جداً قد تفوق 150 دولارًا وفق تقديرات عديدة.