سام الغُباري
كان الناس مؤتمريين، عندما حلّت الوحدة، دخلت التعددية السياسية من بابها، وبدأت اللوحة الكبرى بالاهتراء، تصدعت القبيلة، وناصب شيخها العداء لابن قبيلته الذي خالفه الهوى السياسي، في منافسة مع مواطن سمح له القانون بأن يصبح رجلًا حصينًا، أكثر شهرة ونفوذًا.
شعر الشيخ بالقلق، فاقتحم السياسة مع مرافقيه، ثم طوّر أساليب تعامله مع مواطني قبيلته الذين صار اسمهم «مواطني دائرته»، لم يعد ذلك الشيخ التقليدي، فاز معظمهم عندما لجأوا إلى الرئيس والدولة والحزب، على مواطنهم الطموح بالضربة القاضية. عدّ الشيخ أنفاسه مع كل كرت انتخابي يمنح صوتًا لمنافسه المواطن، كأنه استفتاء ديمقراطي آخر على مكانته في اللعبة الانتخابية الأكثر اشتهاء وإثارة.
في المقابل، أغرت المنافسة رجال الدين، وقفز بعضهم من منابر الجُمعة إلى قبة البرلمان. كان اليمن على موعد مع زحام خطير يتكرر كل 4 سنوات، دون أن يملك دولة قوية، ونخبة راشدة، وتجربة ديمقراطية راسخة، وقيمًا تحترم شأن الراحل عن كراسي الحكم.
مزقت نتائج العام 1994م جزءًا من اللوحة الكبيرة، وأفاق الناس على غضب بالسلاح من نتائج الديمقراطية المفاجئة في انتخابات 93م التي أزاحت وجوهًا وأحزابًا لم تكن قد شبعت بعد من السُّلطة، وفي لحظة احتقان رفع كل امرئ سلاحه في وجه أخيه. وانفجر الدم على مدى سبعين يومًا، مثل نهر أحمر بدأ من عمران بلوغًا المهرة، ليغادرها على متن قارب صغير حمل رؤوس المهزومين إلى وأصقاع أخرى. انقشع غبار المعركة على صدى ضحكة حزبين قويين تقاسما اليمن الكبير هما: المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح.
قبل تلك الأيام، كان مزاج المؤتمريين قد بدأ في الدعوة لقبول الاستفتاء على الدستور، يشاركهم الحزب الاشتراكي، واليسار والحوثيون، وبقي الإصلاح في خانة الرفض. احتدم الشارع، وكلما فتحت نافذة منزلي تبرز لافتة الحزب الإسلامي «حزب المطاوعة»، لأشهد اختلافاتنا الصغيرة الكارهة حول نعم، ولا، لم نكن نعي شيئًا، ولم نفق بعد على قناعاتنا، ولم نُصوّت، كُنّا صبية نُترجم آراء عائلاتنا عن السياسة، وبعد انتصار الدستور، خرجت متشفيًا على جيراني الإصلاحيين. وإلى حرب صيف 94م كان المزاج المؤتمري معادياً للإصلاح في داخله، والعكس، ثمة أفواه كثيرة كانت تردد في كل مكان أنهم «مطاوعة» و«إرهابيون».
كانوا يرتادون المساجد، ويحضرون المراكز الصيفية، ويُطربون بالأناشيد، ولديهم تلك الابتسامة الباهتة، وذلك التكتل المغلق، والمنفعة غير المفتوحة على الآخرين، وكُنّتُ يومذاك أغازل النسوة بقذفهن بحصى صغيرة ومتوسطة من الحجارة في غرابة لم أستطع تفسيرها حتى الآن، وأكتب على جدار الحيّ أنني «العبقري الأسمر». كُنت أغني كثيرًا، وكلما مررت بمسجد حارتنا، كان سادن المسجد الصغير يلكزني بعنف في الصلاة إذا وجدني قد ضممت كفيّ على بعضهما، يحدجني بعينين واسعتين، ويطلق صوتًا من أعماقه كالفحيح قائلًا: أنت زيدي، والزيدي لا يحضن الشيطان! - تلك كانت صفة تُطلق على من يضم يديه إلى صدره في هيئة الصلاة-!
من نافذة داخلية مطلة على حمام المنزل، كان كتاب الزيدية لأحمد محمود صبحي، يحتل صدر مكتبة صغيرة، تحوي بعض كتب الطبري، وقصص كليلة ودمنة، ورواية الثلج الأسود.
قرأت الرواية، وتركت كتاب الزيدية لتأويل «محمد ناصر البخيتي» الذي ظل حريصًا على مشاركة جدّي مقيله اليومي، أتذكر مدحه لحزب «الحق» واقتران اسم الحزب بهدفه وتوجهه، وكنت قاعدًا على عتبة النافذة، أُقطّع أظافر قدمي اليُمنى بأصابع يدي ثم أرفعها إلى أنفي لأتنشق رائحتها المكتومة.
كُنّا مؤتمريين، وجدت نفسي هكذا، ولمّا فشلت أحزاب اليسار وتيارات الإماميين من بلوغ السلطة بعد انتخابات 93م، وما تلاها بحسم السلاح في حرب صيف 94م بفعل تأثير وتحالف حزبيّ الإصلاح والمؤتمر، أعادت تيارات الإمامة توزعها، وانضمت شخصيات بارزة منهم إلى الحزبين المنتصرين، دخلوا من شقوق التحالف إلى ضمير الشهوة، وأعادوا تفسير المؤتمر الشعبي باعتباره «حزب الزيود»، في مواجهة حزب «المطاوعة»، تحضيرًا لانتخابات 97م الجديدة.
في يوم 29 إبريل 1997م، كشفت النتائج خروج التجمع اليمني للإصلاح إلى المعارضة بعد 3 أعوام من ظنه بالنصر، وأعلن «عبدالكريم الأرياني» أن الناس الصامتين قد صوّتوا للمؤتمر.
في سفينة المعارضة التي كانت لا تزال تُبحر تائهة على الضفة المجاورة حاملة قدرًا مُشتهى من الخائبين، تسلَّق الإصلاحيون إليها، ولم يقطعوا حبال كل شيء مع اليابسة، كان لديهم «عبدالله بن حسين» و«علي محسن» وحذر كبير من مكائد الإمامة التي لم تكن قد ارتوت من اختراع خطط الوقيعة داخل كل ما لدينا، من القبيلة، والسياسة، والدولة، والجيش.
في العام 1997م عندما خرج التجمع اليمني للإصلاح من سفينة النجاة إلى سفينة العذاب، كان «أحمد علي عبدالله صالح» بأناقته وهدوئه، وحماسه يحتل صورة كبيرة مدهشة، صعد إلى البرلمان، واكتشف الناس تفاصيل وجهه لأول مرة، وتقدم من السياسة إلى الأدب بترؤسه تكتلًا ثقافيًا سُمّي: النادي الأدبي.
ولم يلبث أن غادر إلى الحرس الجمهوري خلفًا لعمّه: علي صالح الأحمر، استعان أحمد بالمملكة الأردنية لتدريب قوة عسكرية ضاربة، وبدأت إيحاءات كثيرة تسري في الشارع، وسط الناس، بشيطنة الجيش القديم، ما كان يُطلق عليه «جيش علي محسن». في 2004م قُتِل «حسين الحوثي» على أيدي الجيش القديم، ودخلت السياسة الحرب الثانية، وانقسمت تيارات سياسية داخل الإصلاح، والمؤتمر، كانت قوات المنطقة العسكرية الأولى التي يقودها «محسن» تدفع ضريبة دفاع شرس عن الجمهورية في مواجهة تمرد الحوثيين المدعوم من إيران، فيما انزوت نخب سياسية من الإصلاح الذي انضم إلى تكتل أحزاب اللقاء المشترك لوصف الحرب في صعدة بالعبثية، ودعت في بياناتها إلى ضرورة التزام الدولة بحرية الحوثيين في ترديد ما يشاؤون!
كان التصدع خطيرًا داخل أكثر الأحزاب صراحة في مواجهة العقيدة الحوثية «الزيدية»، السياسيون في وادٍ، والجيش في وديان أخرى، والبرلمانيون المستقلون الذين انضموا في فترات متباعدة لتدعيم كتلة المؤتمر الشعبي قد توزعوا بين مناهض، وبائع، وزائر لضاحية لبنان، حيث يقطن مركز توزيع الإرهاب العربي «حزب الله».
توالدت من هناك القنوات التلفزيونية الجديدة، وتضخمت الشائعات، وتعرض الجيش لانسحابات متكررة بأوامر عليا. وبالتزامن كان محافظ عدن «أحمد الكحلاني» يوحي للحراك الجنوبي صباحًا بمناهضة الدولة ضمن لائحة حقوق مطلبية، ويبعث في المساء تقارير مُضللة لرؤسائه عن حقيقة الوضع في محافظته التي كانت عاصمة لدولة الجنوب اليمني.
فشلت الحرب في صعدة بعد ست جولات دامية، وأبان الجيش عورته، واحتدم صراع الإعلام، واشتهت المعارضة أكثر مما يبدو، وقرر «صالح» العناد، حتى بلغ عام الذروة بانفجار «الربيع العربي» من صنعاء. ثم خروجه إلى الرياض محترقًا، وعودته المفاجئة حيًا، وقد بدت آثار الحروق ظاهرة على وجهه الذي طالما عرفناه.
في تلك الأثناء كانت عربات عبدالملك الحوثي قد دهست «صعدة» بأكملها، واندفع الجنوب نحو الانشقاق الصاخب، وترنّح المؤتمر الشعبي العام بخروجه عن مركزية السلطة وإعلان رئيسه اعتزال الحكم. في مشهد كهذا ظهر تيار «العفافيش» - نسبة إلى عائلة الرئيس صالح - كقوة شابة من داخل المؤتمر الشعبي، وهم الذين أعلنوا بفخر عشقهم المفرط لشخص وعائلة «علي عبدالله صالح عفاش»، الذي قُتِل على يد حلفائه الحوثيين، عقب إعلانه الثورة الشعبية عليهم، ورفضه استمرار ما يُسمى بالمجلس السياسي في صنعاء المحتلة.
كانت وصاياه واضحة، إلا أن «العفافيش» استمروا في المجلس الانقلابي، وتولى «صادق أبوراس» رئاسة الحزب، وعمد على تغذية الغضب باتجاه تحالف الشرعية اليمنية. مات «صالح» ولم يذهب من عائلته إلى الثأر سوى ابن أخيه «طارق محمد صالح» الذي تولى مؤخرًا عضوية مجلس القيادة الرئاسي، عقب تخلي الرئيس هادي عن السلطة.
المؤتمر الشعبي العام بعد أربعين عامًا من تأسيسه، يتحول إلى ذكرى مع نهاية التعددية السياسية، وتفجير الصناديق الانتخابية. وقد كان حزب الموظفين، الأقرب لفطرة الناس، ولليماني العادي الذي لم يضطجع بهواه يمنة أو يسرة.
حزب بلا رئيس متفق عليه، فمن صنعاء المحتلة ينفي «صادق أبوراس» حقيقة أن رئيس الدولة هو رئيس الحزب، مستشهدًا بما حدث من خطيئة - فصل - الرئيس هادي قبل زمن، بل يكاد «أبوراس» لا يعترف بغير السلطة التي يعيش خائفًا تحت سياطها، رغم مكانته فيها نائبًا لرئيس مجلسها الإرهابي.
ومن «عدن» لم يحسم المؤتمريون خيارات التحديث بعقد مؤتمر للحزب، وسؤال يدور في أرجاء البلاد، يقول: هل لا يزال «عبدربه منصور هادي» رئيسًا للمؤتمر الشعبي في المناطق المحررة؟ أم أنها آلت إلى «د. رشاد العليمي» كما آلت إليه رئاسة الدولة، وفي الحديدة اختار «طارق صالح» جزءًا من «العفافيش» ليُكوّن بهم «مكتبًا سياسيًا»، وينشئ قناة تلفزيونية يتولاها حوثي قديم، كان يُسمّي اليمانيين بـ»شعب عبدالملك الحوثي»!
ويطل «أحمد علي عبدالله صالح» بكلمات دون صوت، بصفته «نائبًا لمؤتمر صادق أبوراس»، ذلك الذي لا يزال مُصرًا على التحالف مع الحوثيين تحت لافتة «المجلس السياسي»، في حِلف مثير مع قتلة الزعيم والأب صالح.
المؤتمر الشعبي في عامه الأربعين، لم يقل بعد «رب أوزعني» فاليمن الجمهوري الذي يكبره بـ 16 عامًا فقط، مصاب بالوهن، عجوز على حافة السبعين، لم يُحسن تربية عياله، وإرشادهم. أدخلوه دار مُسنين، وقطعوا الدعم عن الدار، وعند الموت سيحضر العيال والأحفاد، والبنات والصبية، وصورة الوطن مصلوبة على جدار العائلة القديم.
جميعًا يبكون، وكل ولد يُخطّئ الآخر، ولكن بعد ماذا؟
بعد أن فقدوا آباهم.
الفاتحة أثابكم الله..
وإلى لقاء يتجدد.