د. شاهر النهاري
قد يكون العنوان مفزعاً لأول وهلة، ولكن وبالتمعن فيما سيقال، ودراسة الأوضاع، التي يعيشها معظم رسامي الكاريكاتير العرب، تتضح لنا الصورة المنكفئة الحزينة.
رسام الكاريكاتير شخص يستطيع فهم وصنع المرح والنكتة، وتصويرها، وخلق المفارقات، والمقارنات، والحديث بلغة الريشة فيما قد لا تجمله المقالات، وهو شخص قد يعاند فترة، ولكنه لا بد أن يصطدم بالمعوقات الاجتماعية والسياسية، والدينية، ويتحول إلى رسام حالم يحاول من خلال الخطوط والألوان التنفيس عن أفكاره المكتومة، كي لا ترتد إليه بالزفير، وتملأ رئتيه بالسموم.
رسام الكاريكاتير المبدع له عين شفافة تنظر لنقاط جزئيات الحياة، بشكل متصل منفصل، يجمعها، ثم لا يلبث أن يبث فيها الروح، حتى ولو لم تنطق بالصوت الحياني، وبكامل ما يدور في مخيلته، ولكنه يعتمد على ذكاء القارئ.
ظروف الدول العربية ثقافياً لم تعد مؤهلة، ولا مشجعة لفنون الكاريكاتير، وبما يفهم ويجب، وقد يتقلص مرجوعها إلى بسمة ينثلها من يرى الرسمة، محملة بزفرة، لا تصنع الكثير، كونها مقصوصة الأجنحة، مسيرة وسط خن داجن لا جديد في يومها، ولا غدها، حتى تحين ساعة النقطة على السطر.
مبدع الكاريكاتير الأصيل يظل يعاني من وجع يتفجر في جوفه، وشعور بنقص الحيلة، وتعاظم القيود على جنون أفكاره، حينما تحاول القفز على الحواجز، وبلوغ حرية التخيل المطلقة، التي وإن وجدت لا يمكن أن تستمر، ولا بد لها يوماً من برقع وحيلة للاختباء وتوجيه الإبداع إلى الخطوط والألوان والروتين، ودون إكمال تداعيات الصور، التي تتوارد في ذهن الرسام، ليصبح شبيهاً بهذا وذاك، ممن يرسمون، لمجرد التواجد، والبقاء على المنابر الصغيرة، ودون أن يتمكنوا من نفث كامل همومهم على الأوراق.
الرسام الأصيل لا يلبث أن يصبح شبه معاق، يسير بعكاز في ذات الممر الضيق، ويعمل على تهذيب أفكاره المجنونة، لتظل متنبهة، ولا تطول الخطوط الحمراء، مع ما يقابلها من صداع احتياجه للرسم، ودوام كتم هواجس الإبداع لديه، ما يضطره للانتقال إلى زوايا ومسارات قصيرة هشة، تخاطب الفرد والمجتمع، والعادات والتقاليد، ومفارقات مواقع التواصل، والخدمات العامة، وتأثير التقنية والاختراعات الجديدة على المواطن، الذي ربما يكون في قمة الرقي والتحضر، وربما يكون بدائي الحال والفكر والمعنويات، وبخبرته يعرف أن الرسم في تلك المجالات، لا يستثير الرقيب، وبالرغم من هزال الفكرة تظل روعة الرسم ترفع من مستواها، والذي قد ينتهي بمجرد بسمة من القارئ، ويا دار ما دخلك شر.
الرسام عندها يضطر لتوجيه زوايا إبداعه لأقل الأشياء أهمية، ويركز كثيراً على الاستطاعة والشكل العام، والألوان، ويبرزها بكلمات رنانة، تؤكد المعاني الصغيرة، والتي قد لا يحتاجها متى ما كبر الخطب، وتحرك في حرية تنتقد بالألوان كل ما يراه عظيماً محركاً للحياة والشعوب والحكومات، وبسائر ما يجيش في الصدر دون تردد.
بعض الرسامين حرفيون، مثل النجار، والحداد، يصنع ما يريده الزبون، وبمواصفات العرض والطلب، ودون أن ينتقد، وربما لو صنع قطعة مختلفة شفافة، تتميز بوضوح روحه وإبداعه فيها، سيضطر لحجب الضوء عنها، فلا يراها إلا أقرب الأحبة، وحتى لو تم انتقادها، فإنها تظل أيقونة يحتفظ بها للزمن.
الحرفيون يبحثون عن المردود المالي، وهذا أقل حق من حقوقهم، ولذلك تصبح رسماتهم حكايات شوارع مؤدلجة، متشابهة، مكررة، يزيد من روتينيتها قدرتهم على استخدام التقنية، التي تشابه مصباح علاء الدين، فيرسم الرسمة، في دقائق، بمجرد أن يستدعي عفريت التقنية، لتحضر له أجزاء الرسمة، من مخزوناتها القديمة، فلا يعود يعرف الخطوط الأولى، ولا يجرب مغالبة العواطف، ولا اهتزاز أصابعه، حينما يتقدم به العمر، ويظل يقص ويلصق ويرضى بأقل القليل، لأنه ينظر لحياته المادية، واستمراريتها، وكل شخبطة لها ثمن.
أما الأغلبية العظمى من رسامي الكاريكاتير، وممن تجدهم في المعارض والملتقيات، بروح شباب وجهود فردية، يرفعون الصوت حسب حدود فكرهم، وبأنهم ما يزالون على أمل أن يتم تقدير إبداعهم كما يستحق، وأن يكون لهم يوماً منبرٌ مميزٌ، وله المردود المادي، وينقش في صخور المستقبل.
وكثيرون من مخضرمي رسامي الكاريكاتير، يعرفون صعوبة المسار لعملهم، وأين سيصلون في النهاية، فيتوجهون إما لرسم البورتريه الشخصي، بقيمة مادية، أو لتغيير المجال كلياً، ليحاولوا منافسة الرسامين التشكيليين في رسم المناظر الطبيعية، ومحاولة عرض أعمالهم الصامتة، ودخول سوق تجاري، ولو عن طريق الانترنت لبيع تلك الأعمال المتكلفة، والتي قد لا تشبع جوف الفنان، ولا تشعره بقربها من طموحه، ولكنها تصنع رغيفه، الذي لا يريد أن يعضه أحدٌ.
كل ذلك جعل في المحيط العربي سيولاً من الرسمات، والتي تحاول الابتعاد عن مسمى الكاريكاتير، رغم أنه فنٌّ كان مؤثراً في بلدان عربية عدة، وكان يجد الاهتمام العظيم، وله عدد من رموز الكاريكاتير العربية، ممن صنعوا تاريخ ذلك الفن، وفردانيته، وجنونه، وتمرده، وأعماقه، بقيمة كانت تسبب شراء الصحيفة، أو المجلة، ويكون لها تأثير مجتمعي عظيم، نظراً لسهولة قراءة ملامح اللوحة، واستيعابها حتى من قبل الطفل الصغير.
وقد كان للكاريكاتير إصدارات عربية خاصة تعنى فقط بهذا الفن، ولكنها اختفت حالياً بعد أن أنهكتها الظروف الضيقة مادة وحرية.
لغة الكاريكاتير لم تعد موجودة بنفس شكلها القديم، وتلك معضلة ثقافية، حينما تكون الأعمال التاريخية، أفضل من الحاضر، ومن المتوقع مستقبلاً، ما يجعل المعاناة تستمر.
والآن ألستم معي بأن كثيراً من رسامي الكاريكاتير الشباب ينتحرون معنوياً، بمجرد محاولة التوفيق بين ما في أنفسهم من طموحات وإبداع وأفكار، وما في الواقع من روتينية وقيود؟