سهام القحطاني
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش...ثمانين حولا لا آبا لك يسأم -زُهير بن أبي سُلمى
ولكن الفتى العربي فيها...غريب الوجه واليد واللسان -المتنبي-
هل للمثقف عمر افتراضي مُزّمن؟ وقد يعترض البعض على هذا السؤال لِم قد يتوهم بأن ذلك السؤال يُشير إلى "تسليع المثقف" وتسويره بصلاحية زمنية "قابلة للإفساد" لمجرد تجاوزها لزمن تلك الصلاحية.
المثقف هو "صانع أفكار" سواء بإعادة صياغتها أو بالإضافة أو بالتجديد، ففي نهاية المطاف "الأفكار" هي مصدر "لتمويل انتاجه".
وللأفكار "دورات حياتية" لها إطارها الزمني الذي يحتكر صلاحية فاعليتها، "فالأفكار ملك أزمنتها لا ملك المثقف" ولكل زمان أفكاره" وهو مبدأ يكاد يكون وثيقة تعايش بين أجيال الأفكار، ومحاربة "سنة هذه الوثيقة" هي التي تؤطر مخالفها "بالتخلف والرجعية".
فما علاقة دورات حياة الأفكار بتقاعد المثقف أو اعتزاله؟
يعيش المثقف دورته الحياتية مؤمنا بأفكار يناضل من أجلها حينا لإثبات صحتها و حقيقتها و واقعيتها وحينا لإثبات خطأ كل ما يخالفها من أفكار وهكذا تظل رحي الدورة الحياتية للمثقف ما بين دوران و دوران حينا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا و حين نرى طحينا بعد جعجعة، وما بين صراع و ائتلاف و توافق و اختلاف؛ حتى تُصبح تلك الأفكار جزءا من هوية المثقف بل قل هي التي تصنع تلك الهوية، ثم يأتي زمان جديد يخلق أفكاره الخاصة وما يختص بها من أسلوب وزوايا رؤى وطرائق تفكير ،وهي أساليب و زوايا و طرائق قد تكون عكس الهوية الثقافية للمثقف و خطها الزمني ومسطرة قيمها و مبادئها.
وهنا يكون المثقف بين خيار من خيارين لا ثالث لهما: إما أن يدخل طور "سن اليأس الثقافي" ويبتعد ويعتزل الثقافة وينسج لنفسه شبكة العنكبوت الخاصة به حتى يتوارى تحت طيات غبار وأتربة النسيان، يشتكي من الأيام "اللاتي رنقن مشربه، و ثلّمنّ حدّه بالخطوب الطوارق" كما قال محمود سامي البارودي.
وحينها تتساوي البطاقات التعريفية للأشياء بالتصفير ليقرر هو كل علامة تعريفية لمنطقه الخاص كما فعل أبو العلاء المعري الذي سنّ لنفسه منطقة ظل من الدلالات "غير مجد في ملتي و اعتقادي..نوح باك ولا ترنم شاد"،ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الغيبوبة الثقافية التي تفقدنا القدرة على إعادة جدولة التقديرات وأدواتها.
وهذا البعد عندما تشتدّ عتمته لا يجد المثقف طريقا للتخلص من تلك العتمة إلا بالموت، ولذا قد لا نستغرب من "ظاهرة انتحار المثقفين والأدباء" فالانتحار يكون هو القرار الأخير للتخلص من ألم وغربة تلك العتمة.
إن حتمية التغير الفكري حتى تتناسب مع الخط الزمني الجديد هي حتمية مرفوضة عند بعض المثقفين والأدباء ولعلهم يرون في الاستسلام لتلك الحتمية خيانة لتاريخهم الفكري وللعهد الذي عقدوه مع أفكارهم، كزواج كنسي لا تنفك عروته الوثقى إلا بالموت.
إذن مسألة التغيير الفكري عند هذه الفئة من المثقفين ليست مسألة تعايش مع مستجدات عالم الأفكار بل هي مسألة حياة أو موت و تشتدّ مسألة الحياة و الموت كلما اتسعت فجوة الخلاف بين الأفكار الجديد والأفكار التي يؤمن بها المثقف، هذه الفجوة كلما اتسعت، اتسعت معها غربته و وحدته و انزوت تجربته تبحث عن شبيهاتها ،وقد يكون "السنّ" هو أهم دوافع اعتزال المثقف لدوره الثقافي؛ إذ ما ألفه من أفكار و وقائع و طقوس حياتيه تنحدر نحو التلاشي و يزداد الأمر حسرة بعد مفارقة أصدقاء و خصوم معاركه الفكرية التي تعبق بالذكريات ليصل إلى إحساس زهير بن أبي سُلمى: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش...ثمانين حولا لا آبا لك يسأم.
فلا يُصبح الزمان هو الزمان ولا المكان هو المكان ليصل إلى إحساس المتنبي "
لكن الفتي العربي فيها...عريب اليد و الوجه و اللسان.
وقول المتنبي يتجاوز تجربة غربته المكانية ليُصبح رمز حالة لمن يعيش في زمن لا فكره و لا لغته و لا تطبيقاته المُعاشة تتوافق مع ما تربى عليها و شكّل هويته الفكرية و الحياتية ،بل و تتناقض مع تاريخ هويته و ذكرياته، فنحن مسحورون بما ألفّناه وشكّل هويتنا و ذاكرتنا وذكرياتنا وإن لم يكن هو الأحسن و الأفضل.
وهذا الصراع النفسي داخل المثقف المعتزل هو الذي يوصله إلى سن اليأس الثقافي وقد يوقعه في فخ التشاؤم ثم الانتحار.
والخيار الآخر: أن يدخل دائرة عالم الأفكار الجديدة متجردا من هويته الثقافية بقصد أو دون قصد وهنا عليه أن يتخلى عن اهتماماته التي أصبحت رمزا للأقلية مقابل اهتمامات الأكثرية وإن خالفت رواسخ هويته الثقافية، وتقديم تنازلت للاندماج مع دائرة عالم الأفكار الجديدة ليبدأ صراع أزياء الغراب و الطاووس.
لكن هل هذا سيمنع إصابته بشعور الغربة،أم سيظل هذا الشعور حبلا في رقبته، سيترقب أول ثقب في تلك الدائرة ليتبخر منها و يطير نحو قفص سنّ اليأس الثقافي؟.