في ظل ما احتلته الهواتف الذكيّة اليوم من مركزٍ عالميٍّ مهمٍ، تساءلتُ: كم لدى العالم من شاشة هاتفٍ محمولٍ مضاءة بالوقت ذاته؟ وما هي كمية المحتوى الكافية للاستهلاك من قبل أولئك المتفاعلين معها والمستخدمين لها معظم أوقاتهم؟
لا أجوبة دقيقة، لكني على ثقة تامة بأن الأرقام كبيرة جدًا، وبناءً عليه فقد أصبحت هذه الشاشات الصغيرة التي نحملها بين أيدينا -كل لحظةٍ وأينما ذهبنا- تشغل مساحةً هائلةً في حياتنا اليوميّة؛ لدرجة أنّها غدت أحد الفواعل المؤثرة على تشكيل الوعي بمفهومه البسيط، حيث بالإمكان أن ترى طفلًا يطرح تساؤلاتٍ لا تمتُ لمحيطة الخاص بصلةٍ ما، فضلًا عن وجود الكثيرين من مستهلكي ما تقدمه تلك الشاشات الصغيرة، الذين يعتمدون عليها في صياغة آرائهم، بالإضافة إلى سلطتها على بعضٍ من جوانب يومياتهم وحياتهم بشكل عام، لا سيما في إيجاد المعايير التي من خلالها تتم عمليّة الاختيار التي يجد الشخص نفسه أمامها كلّ الوقت.
إلى جانب ذلك، فقد لعبت هذه الشاشات الصغيرة، والمحتويات التي تتوافر عبرها، دورًا كبيرًا جدًا عالميًّا في مسألة الاختلافات والتفاوتات بين الجماعات والمجتمعات، إذ باتت الثقافات بما فيها المفردات الخاصة والعادات والتقاليد وغيرها ترتحل من بيئةٍ إلى أخرى، ومن محيطٍ إلى آخر غيره مختلف كليًّا عنه، كذلك من حيزٍ إلى آخر، وبالتالي عمل ذلك على توسيع مستوى القابليّة غير المتاحة سابقًا بين التباينات والتنوّعات القائمة لدى الإنسان بشتى أجناسه، الأمر الذي من شأنه ربما أن يخلق نمطًا موحدًا بطابعٍ عالميٍّ في المستقبل القريب على الأرجح أو أبعد من ذلك قليلًا.
وفي ذات السياق، نجد دراسات علميّة تفحصُ ما تؤدي إليه تلك الشاشات الصغيرة من منافعٍ وأضرارٍ، وسوف يجد أيّ واحدٍ منا في عمليّة بحثٍ بسيطةٍ من يقول بالإيجابيّات والسلبيّات معًا، لكن الثابت في هذا الصدد أنه لا يمكننا -مهما كانت النتائج- الاستغناء عن التردد على هذه الشاشات تمامًا في كل لحظةٍ من لحظاتنا، حتى في تلك الأوقات غير المناسبة. ولذلك دلالة عميقة على أنّها قد تحوّلت إلى جزءٍ غير عضويٍّ من الهويّة إن جاز قول ذلك. وعلى هذا النحو فإنه بالإمكان -وفقاً لخوارزميات محددة- معرفة هويّة الشخص بالنظر إلى نشاطه داخل تلك الشاشة الصغيرة، تحديدًا نوعيّة الصفحات التي يزورها ويبحث عنها، إضافة إلى ما يعجبه وما لا يعجبه، وتبعًا لذلك ولغيره تتكون محصّلة نهائيّة لا بأس بها عن بعض سمات هويّة المُستخدم.
إنّ العالم لم يصبح قرية صغيرة فحسب -كما يوصف من قبل الكثيرين-؛ جراء هذه التقنيات المتطوّرة والمنتشرة في كل بقاع الأرض، بل إنّه أصبح الآن مجرد شاشةٍ صغيرةٍ، نحملها معنا في كل مكانٍ وزمانٍ، ونلج إليها متى ما أردنا الانفصال عن واقعنا المعاش، والارتباط بواقعٍ آخرٍ ربما يجوز أن نصفه بالموازي، وقد ساد ذلك إلى مستوى معه يمكننا القول باختصارٍ: إنّ كل فردٍ في ذات المنزل والبيئة والمحيط يتمتع اليوم بعالمه وواقعه الخاصين، وكذلك عالميّته في آن واحد.
** **
- أحمد الجميد