على إثر رغبة ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية بزيادة الاهتمام في البيئة بالمملكة، ومواجهة مشكلاتها المختلفة مواجهة علمية عملية، كان لا بد من الاعتراف، أولاً، بوجود مشكلات بيئية كبيرة في المملكة، رغم ما يقال عن الطبيعة البشرية في مجال ضعف الرغبة في الاعتراف بالمشكلات، وكذلك في الرغبة في الابتعاد عن مواجهتها، والاستئناس بالرؤى التي تستبعد تلك المواجهة، بنفي وجود المشكلة، ناهيك عن السعي إلى حلها. وقد مر على المملكة حين من الدهر لم تكن هناك مواجهة مباشرة للمشكلات البيئية، بل كان هناك استنزاف كبير للموارد البيئية كافة، لا تخفى على الرغم من وجود بعض الجهات الرسمية وغير الرسمية، والتي تهتم بشأن البيئة في المملكة، مما يؤكد أن هناك شعورًا بوجود مشكلات بيئية، ولكنه ربما لم يكن ذلك الشعور الذي يعترف بأن المشكلات البيئية في المملكة، يصل في حجمه إلى أن يكون مشكلة.
مع ظهور أزمات بيئية كبيرة وتواضع دور المملكة البيئي دولياً، ومع أسباب أخرى اجتماعية وثقافية واقتصادية محلية وإقليمية ودولية، ومع إصرار العالم على أن يكون قرية واحدة، وبروز فكرة العولمة، وتكثيف نشاط منظمة الأمم المتحدة غير السياسية، كان لا بد من وقفة بيئية للمراجعة والتعامل مع المشكلات البيئية محليا، ولا بد من مواجهتها مواجهةً علميةً منهجيةً، تهدف إلى تلمُّس الحلول العملية الواقعية، في ضوء ذلك كله، وفي ضوء شعور ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية ببروز تحديات، ومشكلات بيئية محلية وعالمية، تقتضي سرعة التحرك في اتجاه المواجهة، صدرت الأوامر الملكية بإنشاء وزارة البيئة والمياه والزراعة كأول وزارة للبيئة في المملكة، ثم اعتمدت الاستراتيجية الوطنية للبيئة في المملكة، حيث اشتملت على وضع السياسات والخطط العملية للمعالجة وآليات ومبادرات التنفيذ والتي بلغ عددها (64) مبادرة، حيث قام نخبة من المتخصصين السعوديين في وكالة الوزارة للبيئة بقيادة سعادة الدكتور أسامة بن إبراهيم فقيها وكيل وزارة البيئة والمياه والزراعة للبيئة بأعداد استراتيجية وطنية للبيئة في المملكة العربية السعودية تميزت بشموليتها، ودقتها، وتنوع برامجها ومبادراتها، بتحدٍّ واضح مع الزمن.
والحقيقة أنَّ المشكلات البيئية بصورها المختلفة تؤرق ذوي الضمائر الحية، ممن يهولهم أن يروا بيئتهم، تتدهور بما فيها من كائنات حية متنوعة، إلا أن الشعور والرغبة في إيجاد الحلول لها شيء، والاستعداد الذهني لتقديم التضحيات لحلها من جانب الفئات المختلفة في المجتمع شيء آخر، ذلك أن قضية البيئة لا تخص من يتصدى لمعالجة المشكلة وحده، وإنما تتجاوز ذلك إلى ضرورة إجراء مراجعات لمسائل حيوية، تتصل بتركيبة المجتمع وعادته وتقاليده.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، أي شدة الأمر على النفس الإنسانية، وصعوبات التغيير، بل إنه حتى لو أن الناس قد اجتمعوا -بسبب خطورة المشكلات البيئية- على صدق الرغبة في معالجتها، وعلى قبول ما تقضي به جهود مواجهتها، فإننا نجد أن الناس غالبًا ما يتبنون حلولاً سطحية عاجلة، وغير مدروسة، وغير شاملة وربما آنية، قائمة على سيطرة العاطفة، وردة الفعل الآنية، التي قد تبدو في ظاهرها طبيعية ومقبولة ومنطقية، دون أن يدركوا أنَّ هذه القضية في المجتمعات الحديثة، لاسيما منذ الثورة الصناعية، وما صحبها من سرعة في التغير الاجتماعي، وتعقد في التراكيب والبُنى الاجتماعية، لم تعد بتلك الصورة السطحية أو البسيطة التي يتصورها بعض المتعاطفين مع المشكلة، ودون أن يدركوا أن تعقد البناءات الاجتماعية وسرعة التغير الاجتماعي، قد صحبها تعقد وتداخل كبير فيما يتعلق بالأسباب التي تؤدي إلى العديد من المشكلات البيئية، كما صحبها تداخل معقد بين العوامل المرتبطة بالبيئة، تلك العوامل التي تؤثر وتتأثر ببعضها، فلم يعد من الممكن اليوم النظر إلى المشكلات البيئية على أنها مشكلات ناتجة عن البيئة نفسها وتغيرها، بل أصبح من الضروري النظر أيضاً لها على أنها مشكلات اجتماعية، اقتصادية، تنموية، أسرية، تربوية، خاصة أن بعض الفئات الاجتماعية قادرة، وراغبة في بذل الجهود لإعداد الأجيال للمحافظة على البيئة ومكوناتها المختلفة، مما ينتهي بهؤلاء الأبناء إلى حالات من القدوة في الوعي البيئي ورغبتهم في المحافظة عليها.
ومن هنا يتبين لنا أنه لمعالجة المشكلات البيئية بطريقة فعالة ليس هناك مفر من اتباع الأسلوب العلمي الصحيح في وضع الاستراتيجيات، ودراسة المشكلات وتحليلها، وفي وضع السياسات والمبادرات والخطط التنفيذية الشاملة الكفيلة بمواجهتها، وهذا ما وضح جلياً في الاستراتيجية الوطنية للبيئة في المملكة العربية السعودية.
وفي ضوء ما تقدم، فإن هذه المقالة سوف تستعرض بعض الجوانب الاجتماعية التي تم الاهتمام بها، والتركيز عليها من قبل من قاموا مشكورين بإعداد هذه الاستراتيجية البيئية الشاملة، والتي من أبرزها ما يأتي:
- أوضحت الاستراتيجية أن من أهم المبررات التي استوجبت إعداد استراتيجية وطنية للبيئة في المملكة هو (تدني في مستوى الوعي البيئي وانتشار الممارسات السلبية).
- تضمن الإطار العام للاستراتيجية وتطلعاتها محورين اجتماعيين مهمين هما: محور (الرفاه الاجتماعي)؛ وذلك من خلال دعم جودة الحياة للمواطنين والمقيمين، وتعزيز السياحة البيئية، وكذلك محور (المشاركة البيئية)؛ من خلال مدى مساهمة المجتمع المدني في حماية البيئة، والتركيز على أهمية تحقيق المشاركة الاجتماعية والشعبية في مجالات حماية البيئة كافة على المستويات كافة وبين جميع فئات المجتمع، والاهتمام بالتوعية وتغيير السلوكيات السلبية. وهما أبرز هدفين استراتيجيين ضمن عناصر الاستراتيجية الوطنية للبيئة (الرفاه الاجتماعي، والمشاركة البيئية)، ولضمان تحقيق هذين الهدفين تم بناء خمس مبادرات استراتيجية وعدد من مؤشرات الأداء لهذين الهدفين الاستراتيجيين اجتماعياً؛ رفع مستوى التوعية البيئية، وتشجيع المشاركة الاجتماعية.
- تم التركيز في الإطار المؤسسي للاستراتيجية على أهمية: التفاعل مع القطاع الخاص والجمعيات المجتمعية والقطاعات الأخرى، خاصة القطاعات التنموية، وتعزيز مشاركة تلك القطاعات كافة في قضايا البيئة والتنمية المستدامة، في تحقق أهداف ومخرجات هذه الاستراتيجية.
- كما جاءت الركيزة الاستراتيجية السادسة في الاستراتيجية الوطنية للبيئة (اجتماعية بحتة) تتعلق بـ: التوعية والتعليم والابتكار، وأهم مبادرة استراتيجية فيها هي (زيادة الوعي البيئي في المملكة). وهذه تُعد واحدة من أبرز مخرجات الاستراتيجية، والتي غالباً ما يتم إغفالها في الاستراتيجيات المشابهة.
- ركزت الاستراتيجية بوضوح على أهمية دراسات تقييم الأثر البيئي والاجتماعي، ودراسات التقويم البيئي الاستراتيجي للمشروعات، حتى تكون وسيلة وضمانة لتحقيق جودة الحياة والبيئة معاً للمواطنين كافة في جميع أنحاء المملكة.
مما سبق وغيره مما ورد في الاستراتيجية الوطنية للبيئة يلاحظ بوضوح تام الاهتمام الكبير بالبعد الاجتماعي في أبعاد هذه الاستراتيجية كافة، واعتباره من أركان دعم تنفيذ الاستراتيجية. بارك الله الجهود، وسدد الخطى، وجعل هذه الاستراتيجية المباركة في موازين حسنات ولاة أمرنا أيدهم الله، ومن قام عليها.
** **
أ.د. صالح بن محمد الصغير - أستاذ علم الاجتماع البيئي