مشعل الحارثي
ما أصعب فقد الوالدين مهما بلغا من العمر، وما أصعب فراقهما وغيابهما عن نواظرنا بعد أن كانا بيننا ملء السمع والبصر، يسكنان أفئدتنا ونسعد بوجودهما، ونأنس بتوجيهاتهما السديدة، ونسعى جاهدين لكسب برهما ورضاهما، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}، فبرهما من كمال الإيمان ومن أحب الأعمال إلى الله ومن مفاتيح الخير وأسباب رضى المولى ودخول الجنة.
والموت هو أنكى مصيبة تصيب الناس كما سماه الله جل وعلا فقال: (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)، ولكنها سنة الله في خلقه وأمره الماضي إلى يوم لقاه، وإذا أراد الله أمراً نفذ الحكم والأمر، ولم يبق لنا سوى لطفه ورحماته في أن يبلغنا جنة المرتجى ذخرا.
الموت لا والداً يبقي ولا ولدا
هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا
كان النبي ولم يخلد لأمته
لو خلد الله خلقاً قبله خلدا
للموت فينا سهاماً غير خاطئة
من فاته اليوم سهم لم يفته غدا
وببالغ الحزن والأسى تلقيت فجر يوم الجمعة الماضي النبأ الأليم برحيل فضيلة الشيخ الجليل زايد بن أحمد بن خطفة الشعابي الحارثي رئيس المحكمة المستعجلة الأسبق بمكة المكرمة بعد معاناة مع المرض الزمته الفراش لعدة سنوات، رحمه الله رحمة الأبرار وكتب له مغفرة بلا عذاب وجنة بلا حساب ورؤية المولى بلا حجاب، وإلي الله الرجعى وإليه المآب، وله الحمد والشكر دوماً وأبداً حين نحزن وحين نبتلى، وحين نبتهج وحين نفرح، وحين نصبر ونحتسب ونرضى بالقضاء والقدر، وله الحمد والشكر أن أمرض وأشفى وعافى وأبلى، وأطعم وسقى، وأوى وكفى، ومنع وأعطى، وله الحمد والشكر حتى يرضى وبعد الرضى وإليه المرد والمنتهى، وله الحمد والفضل في الآخرة والأولى على جزيل الأجر وحسن الثواب.
قضيت حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جدير
وإزاء هذا الفقد الجلل وجدت أن الكلمات تخونني وتستعصي علي وأنا أقف في وداع رجل من صلحاء الرجال، وعلماً بارزاً من أعلام قبائل بني الحارث، وممن سخروا حياتهم لخدمة وطنهم وقيادتهم وخدمة مرفق القضاء والإصلاح بين الناس، فقيها عاملاً بعلمه وبما اوتمن عليه من مسؤولية عظيمة لإحقاق الحق ورفع المظالم عن الناس وتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، وقد عرفناه مثالاً حياً للتقى والورع والتواضع، ساعياً للخير محباً للحق والعدل، ناصراً للفضيلة والأخلاق القويمة، وكان عالماً تخرج من جامعة الحياة ولم يمنح أعلى الشهادات، ولكنه ثابر بعصامية جادة في نهل العلم الشرعي من ينابيعه الأصيلة من كبار المشايخ والعلماء الذين أجازوه للعمل في مهنة القضاء، ساعده في ذلك ذكاؤه الحاد وحافظته القوية وصبره وجلده على طلب العلم حتى وصل إلى ما وصل إليه من مكانة وريادة في هذا المجال.
أبا (سعد) لساني عاجز وفمي
وريشتي من دمي تروى ومن مدد
بالأمس كنت هنا رؤيا وصوت صدى
واليوم غبت عن الأحباب والولد
لبيت دعوة رب العالمين رضى
مستبشراً بلقاء الواحد الأحد
وفيما كنا في انتظار وداعه الأخير لدنيانا الفانية في مقبرة الشهداء بمكة المكرمة حيث دفن جدثه ووسط الجموع الغفيرة من أقاربه ومحبيه، عادت بي الذاكرة لاستعرض بعضاً من مواقفه معي فعادت بي الأيام إلى حج عام 1407هـ وهو العام الذي حدثت فيه فتنة الحجاج الإيرانيين بمكة المكرمة وكنت يومها منتدباً من قبل مديرية الأمن العام بالرياض لأعمال الحج، وكان نصيبي أن اكون في التشكيل الإداري مساعداً لقائد قوات مزدلفة للشئون الإدارية، وكان من المصادفات العجيبة أيضا أن يكون قائد المعسكر هو اللواء سعد جابر الشنبري مدير شرطة منطقة مكة المكرمة الاسبق، صديق الوالد وعمي، وأن يكون قاضي المعسكر هو الشيخ زايد بن أحمد الحارثي رحمه الله الذي كان يشغل وقتها رئيس المحكمة المستعجلة بمكة المكرمة، ورأيت في وجوده معنا بهذا المعسكر فرصة ثمينة لي شخصياً لاطلع عن كثب في كيفية تعامله مع المتهمين وإصدار الأحكام الشرعية فحضرت معه احدى الجلسات لأحد المتهمين من الأخوة الإفريقيين، وكم وجدت منه حرصاً شديداً على استقصاء المعلومة الصحيحة وخاصة من أولئك المتهمين الذين لا يتحدثون اللغة العربية فكان يطلب المترجمين ويكرر على المتهم نص الاتهام ثم الحكم ثم يعيده للسجن ثم يطلبه مرة ومرات ويكرر عليه قراءة نص الاتهام والحكم حتى يتأكد تماماً أن المتهم مقر كل الإقرار ومعترف بجرمه وجنايته ومقتنع بالحكم وليس لديه أي اعتراض، وكان من أولئك القضاة الذين يسعون دوماً للإصلاح بين الخصوم بكل الطرق والوسائل قبل إصدار الأحكام القضائية وله في هذا الجانب قصص وحكايات تطول وتطول.
وفي تلك الليالي وأقصد ليالي مزدلفة التي كنا لا نعرف فيها النوم، وخارج نطاق العمل كم كان فضيلته يمتعنا في أوقات الراحة وتناول الوجبات الغذائية بطلاوة حديثه وسرد تلك الطرائف والنوادر من تجاربه الممتدة مع القضاء، إلى جانب نصائحه الثمينة وسرد بعض القصص التراثية والقصائد الشعرية التي تحث على الرجولة والشجاعة والشيم ومكارم الأخلاق، وهذا هو ديدنه الذي الفناه عليه حتى في مجالسه الخاصة والعامة.
هنيئاً له حياً وميتاً
فما كان محتاجاً لتطييب أكفاني
وتدور الأيام وبعد مرور عام من هذه المهمة بمكة المكرمة، اتصل بي مدير الشئون العامة بالأمن العام بالرياض آنذاك الرائد عبدالحميد فراش (اللواء فيما بعد) ليخبرني بان لديه ضيوفاً يريدون السلام علي فوجدت (أبو سعد) الشيخ زايد وقد أتى يطلب الشفاعة الحسنة لأحد المقربين منه في نقل عمله لمقر إقامة والده الطاعن في السن ليقوم على بره وخدمته، وقد أتم الله لي هذا الأمر بتوفيق منه وفضل وتحقق طلب شيخنا الفاضل، رغم أني وقتها حديث عهد بالعمل إلا أنني كنت في قمة السعادة لأرد له شيئاً من بعض جميله ومعروفه وصلة الود والمحبة التي كانت تربطه وشقيقه الراحل الشيخ فايز بن أحمد بوالدي رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح الجنان.
مات الذين لهم فضل ومكرمة
وفي الدفاتر من إحسانهم أثر
وإن غادرنا وودعنا فضيلة الشيخ زايد بن أحمد جسداً فإن روحه وأعماله باقية بيننا مخلفاً ذكراً حسناً بين الناس وذرية صالحة وقد لمست ذلك منهم في عنايتهم وحرصهم الشديد على والدهم في فترات مرضه حتى وفاته، فجزاهم الله عن ذلك البر والعمل خير الجزاء والثواب.
خلفت في الدنيا بياناً خالداً
وتركت أجيالاً من الأبناء
وغداً سيذكرك الزمان ولم يزل
للدهر انصاف وحسن جزاء
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسكن فقيدنا الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل الخير والبركة في أبنائه وذريته، وأن يلهمهم الصبر والاحتساب، وخالص العزاء والمواساة لأبناء الفقيد كل من الأستاذ سعد شافاه الله وعافاه، والأستاذ عبدالله بوزارة الخدمة المدنية الاسبق، والشيخ عبداللطيف بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاسبق، والعمدة حسن بن زايد، والعميد الدكتور زيد بن زايد، والعميد فهد بن زايد، وبقية الأسرة الكريمة، والعزاء موصول لأبناء عمومتهم من ذوي خطفة كافة، ولقبيلة الشعاعيب خاصة، ولقبائل بني الحارث عامة، وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.