حينما كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة والنصف تقريبا من مساء يوم الأحد الثاني من محرم 1444 الموافق 31-7-2022م لم يكن الوقت كسائر الأوقات ولا اليوم كسائر الأيام؛ فلقد كنت أقود سيارتي وحيدا بسرعة تناهز 140 كم في الساعة قادما من المنطقة الشرقية باتجاه مدينة الرياض، وفجأة قطع حبل أفكاري رنين هاتفي المحمول فرمقت شاشته بنظرة سريعة وإذا بي ألمح (أخوي محمد) فانقبض قلبي وكتمت أنفاسي وشعرت بإحساس غريب ممزوج بخوف وترقب - شقيقي محمد كان له شرف ملازمة والدي وخدمته طوال السنوات الماضية، وكذلك كان له شرف ملازمة وخدمة والدتي طوال السنوات التي سبقت وفاتها فهنيئا له وجزاه الله عنا خير الجزاء - وما إن تحدث شقيقي محمد بصوت متهدج وكلمات مقتضبة فقال لي: (أبوي تعب ونقلناه بسيارة الإسعاف للمستشفى والآن هو في قسم الطوارئ) كانت هذه الجملة بمثابة التمهيد لما هو أشد فبادرت محمدا بسؤال مفاده بما يشعر والدي وما هي الأعراض التي دعت إلى نقله؟ فقال لي باقتضاب النبض متوقف ثم أغلق الهاتف وبعد دقائق عاودت الاتصال به وسألته فقال إنه مازال يتلقى صدمات كهربائية لإنعاش القلب!
وهنا بدأ الخوف يتملكني وأحسست بخليط من المشاعر ما بين رهبة و ترقب ومحاولة لرفض الواقع وإنكاره، وفي تلك الأثناء تكررت المكالمات الهاتفية بيني وبين أشقائي وأبنائي إلى أن تأكد لي خبر وفاة والدي- يرحمه الله- بعد صلاة المغرب في اليوم ذاته- فالحمد لله- على قضائه وقدره.
بعد هذه المقدمة الموجزة سأتحدث بإيجاز عن بعض المحطات في حياة والدي عبدالله بن محمد بن زيد بن محمد بن عبدالقادر.
حيث ولد- يرحمه الله- في عام 1355 في مركز الروضة الواقع إلى الجنوب الغربي من محافظة الزلفي، ووالدته هي نورة بنت عبدالمحسن بن فالح الفالح.
ونشأ وحيد والده- يرحمهما الله-، وفقد أمه طفلا حيث توفيت- يرحمها الله- وهو لم يتجاوز الثالثة من عمره، وتربى على يد جدته لأبيه حصة السليمان الملحم- يرحمها الله- وكانت نعم الأم، كما كان لعمته فاطمة الزيد العبدالقادر دور في تربيته خاصة بعد انفصالها عن زوجها واستمرت تعامله كأحد أبنائها، بل إنني شخصيا وباعتباري أحد أبنائه كنت أحظى بالكثير من اهتمامها- يرحمها الله-. وحيث إنه لم يكن هناك تعليم نظامي فقد اكتفى الوالد بتعلم القرآن الكريم في كتاب الروضة وعلى يد والده الجد محمد- يرحمه الله- الذي كان يجيد القراءة والكتابة، وتولى الإمامة في جامع الروضة بعد وفاة إمامه الشيخ عبدالعزيز الخميس (أبو أحمد) -يرحمه الله- وكان الوالد شديد التعلق بوالده والبر به ولذلك استمر في ملازمة والده، الأمر الذي دفعه إلى البقاء إلى جانبه بالعمل في مزرعتنا (العليا)الكائنة بمركز الروضة بالزلفي دون العمل في أي نشاط آخر، وفي المقابل فقد حرص الجد على تربية الوالد تربية مستمدة من قيم الدين الحنيف والقيم الفاضلة والعادات والتقاليد العربية الأصيلة، وبحكم أن الجد محمد أحد وجهاء الزلفي وأعيانها بالإضافة إلى أنه كان مسئول الحسبة في مركز الروضة؛ وكان يسمى النائب نظرا لتعدد وتنوع الأعمال التي يتولاها إذ لم تكن أعمال الحسبة مقتصرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل كانت تتجاوز ذلك إلى الكثير من المهام والأعمال المتعلقة بالنصح والتوجيه وإصلاح ذات البين وخدمة المجتمع بكافة أشكالها ما يعني أنه ينوب عن ولي الأمر في المنطقة التي يعمل بها. كما عرف عن الجد محمد- رحمه الله- أنه مضياف سخي لا ينقطع الضيوف عن منزله رغم ضيق ذات اليد، كل تلك العوامل والمؤثرات كان لها أثرها الواضح في نشأة الوالد وسلوكه الذي كان متميزا من حيث وسطية التدين والحرص على التمسك بالقيم الدينية والاجتماعية مع الاستمرار على ذات النهج الذي كان يسير عليه الجد، بل إن الوالد خلف والده في العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بكافة الأعمال التي كان الجد محمد يتولاها وأتذكر أنني عاصرت ذلك في مرحلة مبكرة من عمري.
تقى وحسن خلق
أما عن صفات الوالد- رحمه الله- فقد اتصف بالورع والتقى، وحسن الخلق، والسخاء والكرم، والتيسير على المعسرين والمحتاجين، والصدق في التعامل، والبشاشة وطلاقة المحيا ورحابة الصدر،وكف الأذى، وبذل المعروف وصلة الرحم، والتواضع ولين المعشر، والتغافل، وصدق الولاء لولي الأمر والدعاء له.
ومع أن ذاكرتي محملة بالعديد من القصص والمواقف التي تجسد الصفات والمناقب السابقة التي كان الوالد- يرحمه الله- يتخلق بها امتثالا لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف وتمسكا بالقيم والعادات الحميدة لمجتمعه وبلاده، وعلى الرغم أنه لم يلتحق بالتعليم النظامي إلا أنه- يرحمه الله- كان يحمل مخزونا ثقافيا لا يضاهى. فقد كان يحفظ الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والشعر بنوعيه الفصيح والعامي كما كان- يرحمه الله-يتمتع بذاكرة قوية، ولا يمل جليسه من حديثه الشيق والقصص الهادفة التي يرويها مع حرصه على توقير الكبير والعطف على الصغير، وأن تكون أحاديثه وقصصه متوافقة مع تعاليم الدين الحنيف والالتزام بمكارم الأخلاق و البعد عن خوارم المروءة والترفع عن الهنات والسقطات. وكثيرا ما كان يتباسط مع الصغار ويمازحهم بأدب جم وتواضع ومودة جعلت الجميع يحبونه ويحرصون على مجالسته ويأنسون بمزاحه وتعليقاته المهذبة، وكانت سيارته ومكان جلوسه لا يخلوان من الحلوى اللذيذة التي يمنحها لكل طفل يصادفه مما يدخل السرور على نفوسهم.
ولعلي هنا أتذكر بعض القصص والمواقف التي عايشتها معه شخصيا- يرحمه الله.
والدتي خير معين
المقولة الخالدة «وراء كل رجل عظيم امرأة» أرى أنها تجسدت في مواقف والدتي مزنة بنت صالح العبداللطيف- يرحمها الله- فقد كانت نعم السند والمعين للوالد- يرحمه الله- في سخائه وكرمه ففضلا عن قيامها بالكثير من الأعمال إلى جانب الوالد الذي كان يعمل وحيدا في مزرعته فكانت تقوم بحصد الأعلاف للمواشي وري المزروعات وحلب الأغنام وغير ذلك من أعمال الفلاحة، فقد كان لها فضل كبير بعد الله بمساندته كرجل مضياف لا تخلو مائدته اليومية من الضيوف، ففي الصباح الباكر تجهز القهوة وطعام الإفطار الذي يمتد من السابعة وربما السادسة إلى ما بعد العاشرة صباحا، وبعد ذلك تبدأ بتجهيز وجبة الغداء التي يحرص الوالد على الانتظار حتى ما بعد الثانية ظهرا ليكتمل الضيوف بشكل يومي وهكذا وجبة العشاء التي تقدم بعد المغرب وتتكرر بعد صلاة العشاء في حال جاء ضيوف جدد، وكانت لا تمل ولا تكل واستمرت على هذا النهج لأكثر من خمسين عاما إلى أن أقعدها المرض- يرحمها الله-، وكانت تشجعنا على دعوة الضيوف لمائدة الوالد لعلمها أن ذلك يسره ويسعده. ومن القصص الطريفة التي حدثت معي وكنت حينها فتى صغيرا ويومها كان والدي غير موجود فحدث أن أديت صلاة الظهر في المسجد فلاحظت وجود رجل غريب في المسجد واتضح انه متسول فلما انتهينا من الصلاة وخرج كل من في المسجد ولم يبق سوى أنا والمتسول فاتجهت اليه وجريا على عادة الوالد- يرحمه الله- قلت له تفضل يا ولد فوافق على الفور وصحبته إلى منزلنا وما أن وصلنا أخبرت والدتي ففرحت- يرحمها الله- وقالت «ولدي» ولما فرغنا من تناول القهوة فذهبت لإحضار الغداء وبعد عودتي وجدته قد أشعل سيجارته فصعقت من ذلك لأننا لم نعتد أن نشاهد أحدا يدخن في مجلسنا وبما أنني فتى صغير فقد تملكني الخوف وعدت إلى والدتي وقلت لها إنني لن أذهب بالغداء لأن الرجال يشرب دخان فهدأت من روعي وقالت «ما عليك منه يا وليدي» أخبره أن التدخين ممنوع وقدم له الغداء لأن إكرام الضيف واجب وهو ما حدث بالفعل.
مشاهدات من حياة والدي
كان مجلسه- رحمه الله- عامرا بالضيوف من جميع الفئات كبار وصغار السن، الأقارب والجيران، ميسور الحال والعامل البسيط من إخوتنا المقيمين في المملكة. من عاداته في أيام نشاطه وصحته- رحمه الله- انه كان يصلي الظهر والمغرب في غالب الأيام في مسجد على الطريق الرئيسي (جامع الغنام) لعله يجد مسافراً يشاركه وجبة الغداء أو العشاء ويندر أن نجلس على المائدة دون أن يشاركنا آخرون بفضل الله.
ومن المواقف الخاصة بعنايته واهتمامه بجيرانه، أنه قبل أكثر من 10 سنوات انتقل من بيته الواقع على شارع رئيس فاقترح عليه أن يتقدم على منافسة حكومية بحكم موقع البيت ومساحته وكانت إجابته ما راح اخلي الناس تزاحم فلانا وفلانا يقصد جيرانه السابقين على مواقف بيوتهم وبقي البيت مهجورا طوال هذه المدة.
- موقف آخر عندما ذكر له بعضهم أن أرضاً معروضة للبيع في قريتنا الروضة فعلق قائلاً من يرغب الشراء الله يقويه ولكن قبل ذلك يتأكد أن فلانا وأبناء فلان (يقصد جيران الأرض المعروضة للبيع) ليس لديهم الرغبة فيها لأن الارض تقع بين منازلهم القديمة.
كان كثير الاهتمام بصلة الرحم والعناية بالأقارب فتجده شديد الحرص ولا يضع أولوية على زيارة المريض منهم وتلبية دعواتهم، وكان كثير التحفيز لي ولإخوتي على القيام بذلك من خلال مرافقته ونحن صغار ويظهر رضاء كبيرا عند قيامنا بذلك.
ومن صور صلة الرحم مع الأموات من الأجداد والجدات والأعمام والعمات خاصة أولئك الذين لم يكن له عقب أنه يخصهم بالدعاء والصدقة والأضحية طوال سنوات حياته مع العلم أنه لم يدركهم وتوفوا قبل ولادته بسنوات، وليس لهم وصايا بهذا الشأن؛ بل إنه تولى تنمية بعض المال اليسير الذي كان يخص بعضا منهم واستثمره أفضل استثمار، وكان يفضلهم على نفسه وبارك الله في هذا المال لدرجة أنه تمكن من بناء مسجد وبعض الأعمال الخيرية ولله الحمد.
كثيرة هي القصص والمواقف، ولكنني اختصرتها خشية الإطالة رحم الله والدي ووالدتي وجمعنا بهم ووالديهم وموتى المسلمين في مستقر رحمته والحمد لله على قضائه وقدره و(إنا لله وإنا اليه راجعون).
** **
- د. عبدالرحمن بن عبدالله العبدالقادر