د.م.علي بن محمد القحطاني
عشت عامين ونيفاً في رحاب صاحبة الجلالة الصحافة, وكان همي وشغلي الشاغل جائحة كورونا, وارتبطت مقالاتي بالجائحة ارتباط الأعمى بالعصا, وقد يكون هذا مقالي الأخير عن سيئة الذكر كورونا, فها هو الوباء يترنح بل في الرمق الأخير, وفي انتظار الضربة القاضية ليلفظ أنفاسه, ولم يتبقَّ إلا إشارة المخرج لإسدال الستار عليه وإعلان وفاته رسمياً ونقله إلى مرقده الأخير غير مأسوف عليه, وأدعو الله سبحانه وتعالى ألا تُحمل الإنسانية ثمن تابوته وتكاليف جنازته كما هو الحال عندما يتحمل الكفيل تكاليف تابوت ونقل جثمان مكفوله من غير المسلمين إلى بلاده.
الوباء موجود ولكن في عِداد الأموات إذا خفتت عنه الأضواء وتعاملت معه المجتمعات بشيء من الحكمة لعجل ذلك دخوله مزبلة التاريخ كغيره مما سبق وعانت منه البشرية من أوبئة بما يقارب العشرين وباءً منها الطاعون والجدري والكوليرا.
أبدعت وزارة الصحة منذ البداية في التصدي للجائحة ونتوقع وننتظر منها وضع بصماتها في هذا الجانب بأبحاث علميه ودراسات معمقة وإحصائيات دقيقة تسهم بها في إلقاء الضوء على هذا الوباء في كافة مراحله, وكذلك لإيضاح وتبيان حقيقة اللقاحات وفعاليتها وتأثيراتها وآثارها الجانبية في المملكة إن وجدت لتسهم في اختيار الأجدى والأنجع وأكثرها أماناً وأقلها آثاراً جانبية من بين كل هذه اللقاحات, أو الاستمرار في البحث عن بدائل وإيجاد سبل لتلافي ومعالجة الآثار الجانبية.
من بديهيات إدارة الكوارث أن ترتكز خططها الإستراتيجية على ما يعرف بتغذية المعلومات المرتجعة (feedback) لتقييم الخطط وتقويمها عندما يتطب الأمر ذلك وفي هذه الجائحة يعتبر أفراد الطواقم الطبية والفنية والإدارية العاملة في الخطوط الأمامية من أهم مصادر هذه المعلومات وأثراها والتي للأسف لم تكن هناك آلية واضحة وسريعة لإيصال أصواتهم وتقاريرهم لمن بيده القرار فلجأوا للصحف ومنصات التواصل الاجتماعي لإيصال ما لديهم من تنبيهات وتحذيرات وإرشادات.
ومن مصادر تلك المعلومات أيضاً الصحافة ممثلة في كتَّاب الرأي بما يطرحونه من آراء وأفكار من خارج الصندوق لتنوع خلفياتهم العلمية والعملية فالحكمة ضالة المؤمن ونقل نبض الشارع ومشاعر المجتمع ولكن يبدو أن الوزارة اكتفت بما لديها من معلومات وآراء وتوجهات عالمية موحدة وتصر على استخدام الصحافة في التعامل مع المجتمع في اتجاه واحد وبأسلوب من لا يبصر إلا بعين واحدة من خلال نقل ما لديها من إحصائيات ونصائح وإرشادات وتوجيهات في مؤتمراتها الصحفية ومن ثمة يقوم مراسلو الصحف المختلفة بنقلها على شكل أخبار وبيانات صحفية. وحذفت من قاموسها أي معلومات مرتجعة والأمثلة على ذلك كثيرة حيث كتب عن كورونا العديد من الكتاب وخصوصاً في بدايتها ولكني سأكتفي بمثال واحد يؤكد ما ذهبت إليه فقد كتبت خلال فترة كورونا ما يقارب المائة مقال (بصدد جمعها في كتاب) وفي صحف متعددة ولم تعلق الوزارة أو فريق إدارة الجائحة ما ينفي أو يؤكد أو يؤيد أو يعارض ما ورد فيها فإما أن المعنيين لم يطلعوا عليها من الأساس أو أنها لم ترصد عليها أي ملاحظة أو معلومات غير صحيحة فإذا كان الأمر ما ذكر فهذه شهادة صامتة أعتز بها في حين كان الواجب أن تكون ناطقة ليستمر العطاء وتبادل المعلومات والاستفادة من الخبرات والتجارب التي يزخر بها المجتمع السعودي ولله الحمد.
حلقت في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة كطائر حط وتنقل بين معظم حدائقها ومررت بها مرور الكرام فأحسنوا وفادتي وكان لكل منها سياستها وآلية عمل تميزها عن أقرانها ولكن حدائق الجزيرة الغناء استهوتني لتعاملها الراقي وفساحة أجوائها فنشرت معظم مقالاتي بها وعلى النقيض إحدى تلك الحدائق لمحتها من شاهق فأعجبتني ألوانها وعزمت على اكتشافها ولكني أبصرت ناطورها يتربص لاصطياد أي مقالة تروقه فينسبها لنفسه ففررت فرار المعافى من المجذوم... بعد اكتشافي قيام مسؤول القسم الثقافي ومن يراجع ويجيز مقالاتها بسرقة أحد مقالاتي ونشره باسمه وبدون أي تغيير أو تعديل.
وأخيراً شكراً كورونا وما شكري لها حمداً ولكنها أتاحت لي الفرصة لأدلو بما لدي من علوم ومعارف وعرفتني وعشت وتعايشت مع العديد من شرائح المجتمع ووسعت مداركي بالتعلم واكتساب خبرات جديدة لم أكن لأتعلمها لولاها.
ختاماً أتمنى أن أكون ممن ينطبق عليهم قول الشاعر:
وَالذِّكْرُ يَبْقَى زَمَانًا بَعْدَ صَانِعِهِ
وَخَالِدُ الذِّكْرُ بِالإِحْسَانِ مَقْرُونًا
وأشعر بنوع من السعادة والفخر لكوني حاولت جاهداً أن أخدم مجتمعي وأوفي ولو جزءاً يسيراً من حقوق وطني عليّ فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان شكراً من الأعماق لكل من شجعني ووجهني وأثنى على مقالاتي أو انتقدها أو ساهم في نشرها.