عبدالرحمن الحبيب
«لا تقرأ ما هو متاح لك بل ما أنت متاح له».. «حينما يقرأ الإنسان نصاً، من هو الذي يقرأ فعلاً؟ أي جزء منك بالضبط هو القارئ حقاً؟ أهو أنت «أنت الداخلي»؟ وبعبارة أخرى: هل القارئ هو وعيك مجرداً من إملاءات الآخر؟ أم هو من تريده أن يظهر للآخر وفق صورة ما تُكسبك مكانة مستحسنة أو تجنبك مكانة مستقبحة عنده؟» هذا ما كتبه المفكر البروفيسور عبدالله البريدي مقسماً القُراء إلى: قارئ أصيل (القارئ المستوطن ذاته)، وقارئ مغترب (القارئ المستوطن الآخر) فهو إما قارئ غافٍ أو تائه أو مبعثر.. ومنبهاً إلى أن القارئ قد يقع في فخ القراءة العشوائية المتأرجحة بين هذين النمطين..
جاء ذلك في الفصل الأول من كتاب فلسفي فريد من نوعه للمفكر البريدي بعنوان «كينونة ناقصة» وعنوان فرعي «أحد عشر سؤالاً في قراءة الفلسفة».. كل سؤال يشكل فصلاً من فصول الكتاب، الفصلان الأولان تناولا القراءة: ما قبلها وماهيتها ومهارة ممارستها، فيما بقية الفصول تناولت الفلسفة: ماهيتها وطريقة قراءتها، ولماذا وماذا وكيف وكم ومتى نقرأ الفلسفة؟ وهل تؤثر الفلسفة على الدين؟ وخاتمة الفصول تناول ما بعد القراءة/ الفلسفة.
لماذا هذا العنوان الغريب «كينونة ناقصة»؟ لأن التعريف أو التوصيف أو التفسير ذاته إنما هو، حسب المؤلف: «كينونة ناقصة وتمامها الاجتهاد»، وكذلك الفلسفة. وفي هذا يطرح المؤلف توصيفاً طريفاً مشبهاً الفلسفة كتفاحة أبل، دوماً مقضومة! مما يكرس أبدية الاجتهاد الإنساني في التفكير الفلسفي والعلمي والديني... «بمثل هذه التوصيفات المقترحة، لا ندعي إطلاقاً أنها جامعة مانعة، حيث نعارض من حيث المبدأ كون التعريف يدَّعي الجمع لأفراد المعرّف، والمنع لأفراد غير المعرَّف» كما كتب المؤلف.
المفكر عبدالله البريدي، كدأبه في كافة مؤلفاته، شغوف بمساءلة المنهج العلمي ونقده من خلال وسائل المنهج ذاته وبطريقة في التفكير خارج الصندوق.. فرغم أن مبحث التعريف هو أحد لبنات المنهجية العلمية لدراسة مختلف الظواهر الإنسانية والاجتماعية والطبيعية، إلا أننا بحاجة بين الفينة والأخرى، إلى مخاتلة المنهج العلمي ذاته لهزه ونفض غبار الرتابة والآلية النمطية في التعاطي المنهجي مع هذه الظواهر.. أي ممارسة قدر من الضدية للمنهج ولكن بالمنهج ذاته على حد وصف المؤلف.
منهجية الكتاب اعتمدت التصنيف والتأطير المرن للوصف والتعريف من أجل استيعاب الموصوف وفهمه، فهو يفرز أنواع القُراء والقراءة، وأنواع الفلسفات والفلاسفة، مثل: فلاسفة خُلَّص، علماء خلص، فلاسفة علماء، علماء فلاسفة؛ وفي سياق آخر نجد: الأديب الخالص والفنان الصرف، والأديب بوصفه فيلسوفاً تلقائياً. وفي ذات السياق نجد تصنيف للمعارف (الدينية، العلمية، الأدبية والفنية) وتمييزها عن المعرفة الفلسفية، ونجد في تفتيت التعقيد: سطحية التبسيط، عمق التعقيد، عمق البساطة. وكما أشير، رغم أن المؤلف يخاتل منهجية التعريف والتصنيف فهو أيضاً يطبقها لكن ليس بحذافيرها الاعتيادية كأحد أسس المنهج العلمي، بل يمارسها بطريقة دقيقة ورشيقة ليضفي على المشهد مزيداً من الضوء في زواياه المعتمة وإجلاء الغموض فيه، فهو لا يعبر بين النصوص الفكرية الجافة والغامضة عبور الملاحِظ العادي، بل يفككها ويتفحصها بدقة لمعرفة كنهها ثم يقدمها للقارئ لقمة سائغة ولذيذة..
ومثلما أن المؤلف شغوف بمخاتلة المنهج العلمي فهو كذلك مشاكس مع الصياغة اللغوية وجماليات العبارة وما اعتدنا عليه من مقولات يجدد فيها بطرق شتى، ولعل عنوان الكتاب المؤشر الأول على ذلك.. ومن تلك المشاكسات في تركيب كلمة على مقولات مشهورة مثل: الدخول إلى النصوص من أبوابها؛ أو صياغة عبارات جديدة غير معتادة أو صادمة كأنها توقظ اللغة من سباتها: اصطياد السردية والحبكة، تشسيع عوالم، دال لاهث حلف مدلوله، تقشير فلسفة الآخر.. «أعضاء الفلسفة» بدلاً من أقسام الفلسفة.. أو كما جاء في الإهداء: أهدي هذا النص إلى أخي الإنسان: المفتقر المستغني. كذلك نجد في نصوص الكتاب تكثيف عبارات لغوية ذات دلالة واسعة و/أو عميقة، سواء للمؤلف أو مقتبسة.
يوضح المؤلف أن كتابه يقرب الفلسفة في سياق يتجاوز بنا ضيق التعاريف والممارسات الشكلانية والجامدة والخائبة، صوب سعة التوصيفات والمنهجيات والاستدلالات والمقاربات والتفلسفات الفعالة المتألقة المتفاعلة مع الراهن والمستقبل. وكأنه يقول لنا: هذه هي الفلسفة، فلنفك شفرات قراءتها شفرة شفرة، ولنتبين مسارب تخصيبها؛ فكراً وتطبيقاً. في هذا الكتاب تجربة قارئ فلسفة لفترة تنيف على الثلاثين عاماً، فيقدم عصارتها ومستحلب فعاليتها تجاه الفلسفة قراءة وتثميراً..
هذا الكتاب يصلح لفئات عديدة من القراء، ومن بينهم من قرأ في الفلسفة منذ وقت قريب، ويفكر في الاستمرار، مع وجود قدر من الصعوبة أو الملل أو التشتت أو الغموض أو الالتباس حيال جانب أو آخر في هذه القراءة، أو أنه يفكر في التوقف عنها لأسباب بدت بعضها واضحة وبعضها الآخر مبهمة، أو أنه بات لا يدري بالضبط ما يفعل تجاه ذلك. وهذا الكتاب ملائم أيضاً لمن لم يقرأ ألبتة في الفلسفة، ويفكر في خوض غمارها. وقد يصلح أيضاً لمن قرأ في الفلسفة كثيراً، ورام أن يقارن تجربته بتجربة قرائية أخرى، مستكشفاً نقاط التشابه والاختلاف، وجاعلاً من النص منصة للتحسين القرائي.