الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أمام المتغيرات الحديثة المتسارعة في المجتمع تعاني الأسرة عجزاً حاداً في ميزانيتها، وذلك بسبب تدني مستوى الدخل، والارتفاع الدائم في الأسعار، مع تزايد الضغوط المعيشية المؤثّرة على استقرار الأسرة وسعادتها. وفي تعاليم الدين الإسلامي الحنيف توجد الحلول لمعالجة كل المشكلات التي تواجه الإنسان.
«الجزيرة» التقت عدداً من المتخصصين والخبراء في الشأن الاجتماعي والاقتصادي، وكانت رؤاهم على النحو التالي:
ترشيد الاستهلاك
بداية يبين الدكتور محمد بن عبدالله العوض أستاذ وخبير الإدارة الإستراتيجية والتسويق، أنه خلال السنوات الماضية قامت العديد من الجهات ذات العلاقة بحملات توعية حول ترشيد الاستهلاك وكان التركيز ف ي تلك الحملات على الطاقة والمياه، وترشيد الاستهلاك بمفهومه الشامل هو سياسة تقوم على عنصرين أساسيين هما عدم الإسراف في الإنفاق أو الاستهلاك في كل شيء، والعنصر الثاني توجيه المدفوعات في مصارفها الضرورية وترشيد الاستهلاك الشامل ليس المخاطب فيه ذوي الدخل الأقل أو الأكثر أو المتوسط وإنما هي سياسة يجب على الجميع اتباعها والتقيد بها كل حسب المستوى المعيشي والاجتماعي المناسب له وبالحد الذي يمنع الإسراف ويوجه المصروفات إلى الأولويات والتدرج في الكماليات حسب الحاجة والوقت المناسب لها.
وعليه فإن الحل الأول والأخير يكمن في ترشيد الاستهلاك بمفهومة الشامل، ومن الخطوات العملية التي يمكن أن تساعد الأسر التي تعاني عجزاً في ميزانياتها هي:
أولاً: أن يكون لدى هذه الأسر حملات توعية داخلية لمفهوم ترشيد الاستهلاك الشامل ومن ذلك توعية أفراد الأسرة والإرشاد لحسن التصرف في المال الذي بين أيديهم والتعامل مع الضروريات والكماليات وفق سياسات يضعها رب الأسرة تتناسب مع ميزانية الأسرة الشهرية.
ثانياً: عقد جلسات مصارحة من رب الأسرة مع أفراد العائلة وأخبارهم بالموازنة المالية المتوفرة والمصروفات الشهرية ومشاركتهم القرار والاتفاق معهم قدر الإمكان للبعد عن الكماليات والهدر.
ثالثاً: أن يكون لكل أسره ميزانية مبسطة جداً تعتمد على الدخل الشهري للأسرة من جميع أفراد العائلة وتشمل ببساطة الدخل المتوقع والصرف المتوقع، والأخذ بمقولة «الجود من الماجود».
رابعاً: تنمية عادة الادخار لدى أفراد الأسرة مع البعد عن التقتير أو البخل وأن يكون مبدأ التوفير مطبق مهما كان الدخل محدوداً ومهما قل مبلغ الادخار.
خامساً: ممارسة الشراء، وخاصة أغراض السوبرماركت، من الموقع الإلكترونية إذا كان الشخص لا يستطيع التحكم بمشترياته اليومية خلال زيارته للسوبرماركت، لأنه خلال الزيارة يتعرض للكثير من المغريات التي تجعله يشتري ما لا يحتاج إليه.
سادساً: التعود على تسجيل المشتريات قبل التسوق وأن يكون التسجيل بشكل محدد وبكميات محددة وهذا نوع من أنواع ترشيد الاستهلاك الشامل الذي يقلل المشتريات ويساعد في تلافي الهدر الذي هو كبير في مجتمعاتنا حتى عند بعض ذوي الدخول المحدودة.
سابعاً: البعد كل البعد عن الاقتراض أو الاسلاف قدر الإمكان.
ثامناً: السعي في أسباب الرزق الحلال الطيب المبارك.
وأخيراً الاستعانة بالله جلّ جلالة والعلم يقيناً أنه هو الرازق المتصرف في هذا الكون وحده وكل ما علينا هو فعل الأسباب والتوكل عليه حق التوكل.
ميزانية الأسرة
ويؤكد الدكتور خالد بن عبدالقادر الحارثي المستشار الاجتماعي أن ميزانية الأسرة تظل تشكل هاجساً لعائلها وأي تأثير عليها سلباً حتمًا سيولد خلافاً زوجيًا وقد يصل إلى الطلاق وانهيار الأسرة ما لم يواجه بعقلانية، وبالذات من الزوجة التي يعول عليها كثيرًا في تدبير نفقات الحياة التي تضخمت بشكل متسارع مما يشعر الزوج بالعجز بعض الأحيان أمام متطلبات أسرته وخاصة إذا كانت الزوجة ربة منزل بخلاف الأسر التي يكون فيها الزوجان يعملان فهي تحقق استقرار أكثر متى ما كان هناك مشاركة من الزوجة براتبها وليس إلزام من باب التعاون لمواجهة صعوبة الحياة وبالذات لأرباب الأسر من ذوي الدخل المحدود جداً، ولا بد أن نضع في الاعتبار أن الميزانية تختلف من أسرة لأخرى، ومن مدينة لمدينة أو قرية وحسب أفراد الأسرة وأعمار الأبناء، لذا من الخطأ تعميم خطة لأسرة ناجحة على بقية الأسر، ومن أكثر الأسر نجاحًا إلى حد ما في تيسير ميزانيتها هي التي وضعت خطتها المقترحة بواقعية وقبل بداية العام وميّزت شهري رمضان والحج بمبلغ، وانطلاق العام الدراسي بمبلغ، والإجازات القصيرة والطويلة بمبلغ وهكذا.
وجعلت وبالالتزام صلاحية الصرف لدى فرد في الأسرة.
ومن عوامل توازن الميزانية وحمايتها من الاهتزاز هو تخصيص مبلغ تحت بند (طوارئ) وأن لم يستخدم فهو ادخار إما أن يصرف في آخر العام للإجازة الصيفية أو يترك لسنوات كأمان من السلف أو القروض البنكية، ولن تنجح أي خطة مالية ما لم يشارك فيها الأبناء بقناعة وتربية من الصغر على سياسة الترشيد في كل شيء وليس البخل؛ فترشيدهم للماء والكهرباء والتقليل من طلبات الوجبات السريعة حتماً سيوفر كثير.
واختتم د. خالد الحارثي حديثه بالتحذير من خطر تدمير ميزانية الأسرة وهو شغف التسوق بالمتاجر الإلكترونية والتي تتفنن في إغراء عروضها عبر فواصل إعلانية بوسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المتاجر وبسياسة تسهيل الأمر (الدفع عند الاستلام)، لذا ستنهار الميزانية وتزداد الخلافات ما لم يكبح أفراد الأسرة شغف التسوق بشراء ما يحتاجونه فقط وترك ما يغيريهم لوقت آخر تكون الميزانية بخير.
تصحيح المفاهيم
ويقول الدكتور المحامي علي بن عبدالله البريدي رئيس شركة الحلول الاستشارية، إن الضغوطات التي تواجهها الأسر وتآكل الطبقة المتوسطة وانسحاق الطبقات الأقل من المتوسطة مشكلة عالمية، لكن الفرق أن معظم أسرنا لديه الإمكانات لمواجهتها لو رفعت من الوعي الاقتصادي وابتعدت عن بعض المفاهيم والتصرفات الخاطئة منها:
1 - التخلص من تأثير عصر الطفرة ثم الاعتراف بأن قواعد الاقتصاد تنطبق علينا؛ فالحمد الله مرت بلادنا بطفرة ربما لم تسبق في التاريخ انتقلت أسرنا من فقر مدقع إلى رخاء كبير، حيث إن هذه الطفرة وصلت لمرحلة نضج تقتضي التعامل معها بمنطقية بعيداً عن التصرفات السابقة.
2 - إيجاد ميزانية والعيش في حدودها؛ فلا بد من ترتيب الأولويات، وهذا للأسف يغفل عنه الكثير لذلك نجد في تقارير البنك المركزي استئثار الكافيهات وغيرها من الكماليات على جانب كبير من الإنفاق فلا بد أن تعتاد الأسر السعودية على وضع الميزانية والتمسك بها بدلاً من أن نجد الراتب ينتهي قبل يومين وربما أكثر، ثم يخرج شعار الراتب لا يكفي الحاجة مع أنه لدى الكثيرين يكفي الحاجة أما الكماليات فلا تنتهي وأصبح هذا محسوس حتى لدى أصحاب المطاعم والكافيهات، حيث مبيعاتهم تزدهر مع صرف الرواتب وتتقلص مع قرب نهاية الشهر، ولو كان هناك ميزانية لتوازن الصرف تبعاً لها وقد ورد عن السلف النهي عن الصرف بناء على الهوى فقالوا:» أكل ما اشتهينا اشترينا».
3 - تنمية الحساسية السعرية:
لأن معظم أسرنا تدفع دون نظر في تفاصيل الفاتورة، بل تعتبر المناقشة بالسعر عيب، وهذا ما دفع كثير من الشركات تتبنى سياسة رفع السعر في المملكة العربية السعودية بنسب فاحشة مطمئنة أن العميل سيستمر بالدفع، وقد انتشر إقرار مدير إحدى هذه الشركات الأجنبية أنه يرفع السعر في السعودية ليثبت السعر في دولة خليجية أخرى.
4 - ترسيخ ممارسة الادخار والاستثمار لمواجهه التضخم:
ولأهمية هذا الأمر أصبح من مستهدفات الرؤية فالتضخم يرفع الأسعار لذلك لا بد من مواجهته بالادخار ثم استثمار الأموال المدخرة والكثير يغفل عن ذلك ويعتبر الاستثمار فقط للشركات أو الملياردية.
5 - تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة: مثل المباهاة والتنافس الضار تحت مسمى الكرم، ومقولة أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب فهي مفهوم خاطئ فما في الغيب إن كان المقصود به المستقبل فإنه سيأتي لمن كتبت له الحياة سواء أنفق أم أدخر وإن يأتي المستقبل وأنت محتاط خير من أن يأتي وأنت غير جاهز.
ضبط المصروفات
ويؤكد الدكتور محمد بن سعود البدر عضو مجلس الإدارة في عدة شركات وجهات حكومية وأهلية، أننا في السعودية نتمتع بمستوى اقتصادي أفضل من الكثير من الدول العالم، حيث إن هناك شريحة كبيرة من الدول يبلغ متوسط دخلها أقل من 10 % داخل الأسرة السعودية، أضف إلى ذلك الترابط الأسري والاجتماعي الذي يتميز به المجتمع السعودي، وأنه من الأهمية بمكان أن تثقيف أفراد الأسرة وتنمية مهاراتهم في مجال الاكتفاء المالي وصولاً إلى الاستقرار والحرية المالية.
موضحاً أن كلامه ليس نظرياً إنما هي تجارب واقعية ونتيجة أبحاث اقتصادية؛فإذا نظرنا إلى ميزانية الأسرة نستطيع تقسيمها إلى دخل مالي وإلى مصروفات في طرق مختلفة؛ فإذا قلت المصروفات عن الدخل المالي للأسرة تمكنت الأسرة من توفير مبالغ مالية واستغلتها في الاستثمار الذي سوف يحقق دخلاً إضافياً، أي أن التوفير في المصروف واستغلاله سوف يوفر الدخل الإضافي. ويشدد الدكتور محمد البدر على أن التحكم بالمصروفات هو بيد الأسرة وتستطيع من خلاله أن يكون الدخل عائدة أعلى وفائدته أكبر وهذا ما يفعله الناجحون والأثرياء، والذي لا يسيطر على مصروفاته فرداً كان أم أسرة سوف يكون مصيره الفقر والعدم ويرزح تحت وطأة الديون، مشيراً إلى أن السيطرة على المصروفات تعتبر مهارة يجب تعلمها وإتقانها والمداومة عليها، ويفضل أن يدرب عليها الطفل منذ صغره فقد وجدت الدراسات أن الذين فازوا في اليانصيب في أمريكا وهي مبالغ خيالية مرتفعة بعد ثلاث سنوات يعودون إلى مستواهم المالي السابق ويفقدون المبالغ التي حصلوا عليها، وذلك لأنهم يفتقدون إلى المهارات التي تجعلهم يسيطرون على مصروفاتهم وبذلك يفقدون هذا الدخل الفلكي.
أما عن كيفية ضبط المصروفات -والكلام للدكتور البدر- فهذه تحتاج إلى تخطيط مسبق، والاعتياد على عمل موازنة شهرية للصرف بتقسيم المصروفات في هذه الميزانية إلى ثلاثة أنواع:
أولاً: مصاريف ثابتة مثل: فواتير الكهرباء والماء والهاتف والإيجار وحتى هذه المصروفات يمكن السيطرة عليها عبر تقليل استخدام المكيفات وترشيد استخدام الهاتف المتنقل وضبط هدر المياه، وهناك عدة طرق للسيطرة على هذه المصروفات.
ثانياً: مصاريف التسوق وهنا سوف نجد أننا لا نستطيع أن نوفر الفواتير بصورة كبيرة في عدة طرق منها تحديد قائمة بالمطلوب شرائه قبل الذهاب إلى السوق المركزي والالتزام بهذه القائمة فمن تجربة شخصية إذا اتبعت هذا الأسلوب تستطيع توفير 70 % من فاتورة التسوق، وأن لا تذهب للتسوق وأنت جائع أو متوتر، كما ينصح الذهاب إلى سوق الجملة لشراء احتياجات المنزل بدلاً من الأسواق المركزية المعتادة وبهذه الطريقة تستطيع أن توفر أكثر من 50 % من قيمة المشتريات.
ثالثاً: مصاريف الترفيه مثل الذهاب إلى المقاهي والمطاعم والسفر في الإجازات وهذه تحتاج إلى تخطيط وتقليل الهدر المالي فيها ليس له حدود، والسيطرة على المصروفات تحتاج إلى تكاتف المجتمع فمثلاً التكاليف الخاصة بحفلات الزواج يمكن السيطرة عليها عبر الاتفاق بين فعاليات المجتمع على التقليل من التكاليف غير المباشرة فإذا نظرنا إلى دول الخليج من الكويت إلى سلطنة عمان نجد أن حفلات الزواج تبدأ من بعد صلاة العصر إلى أذان العشاء وبهذه الطريقة يتم توفير مصاريف وجبة العشاء.
وهنا أوصي بإدخال مادة التربية المالية في مناهج التعليم العام بغرض تنمية مهارات السيطرة على المصروفات وتنمية المدخرات والوصول إلى الحرية والاستقلال المالي، كما أوصي بالابتعاد عن الاقتراض المالي لأغراض للاستهلاك فهذا مدمر لمستقبل الشخص والأسرة.