من إصدارات اثنينية النعيم الثقافية ومكتبة المتنبي، قرأت المجموعة القصصية «اغتراب واقتراب» لمؤلفها محمد بن صالح النعيم.
في المجموعة عشْرُ قصصٍ، موضوعاتُها قريبةٌ من محيطِنا الحياتي، تحس عاطفتها نبيلة في رواية أحداثٍ عادية، يمكن أن يمُرَّ بها كلُّ شخصٍ في مجتمعنا.
قدَّم للمجموعةِ كلُّ من الشاعرين «سمير فراج» و»راتب سكر» مؤَكِّدَيْنِ أنَّ السردَ امتازَ بلغةٍ بسيطةٍ، ومشيرَيْنِ إلى تعبيرِ النصوص السرديَّةِ عن شخصيَّاتٍ من حياتِنا القريبَة، وعن التزامِ الكاتبِ محمد النعيم بثقافةِ مجتمعِه وحيواتِ أهلِه.
تطرحُ القصص طرحًا جادًا هُمومَ الناسِ الفقراءِ والأغنياءِ، من محيطِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ للكاتبِ في المملكة العربيَّةِ السعوديَّة: بساطة حياتهم، ومشكلات معيشتهم، وطموحاتهم في الحاضر والمستقبل. جاءت قصصُ المجموعة بترتيب يمكن تناولُها بتسلسله وفقَ الآتي:
1- قصة بعنوان «عزيمة... لا تعرف اليأس»: تتحدثُ عن جرائمِ الصهيونية ومعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الصهيوني الغاشم، والطريقة البشعة لتعامل جنود الاحتلال مع الرجال والأطفال والنساء؛ الرازحين تحت الاحتلال الصهيوني وظلمه. بطل القصة أبو حامد يريد زيارة أحفاده، وتذكر القصة ما عاناه الجد في طريقه من تحديات وإهانات وضرب من قبل جنود الاحتلال. تستدعي القصة معطيات من القرآن الكريم: على لسان أبي حامد: «يشكو بثه وحزنه وضعف حيلته إلى الله تعالى»، («اغتراب واقتراب» ص21)، وفي هذا الاستدعاء تناص مع الآية الكريمة: «قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون». (سورة يوسف، الآية 86). وفي كلام السارد كذلك على توضيح غاية السفر عند أبي حامد بالقول: «ما هي إلا حاجة في نفسه يريد أن يحققها من سفره هذا». («اغتراب واقتراب» ص27). وفي هذا التوضيح تناص مع الآية الكريمة»... إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها...»، (سورة يوسف، الآية 68)... وهذا الاستدعاء من سورة يوسف في المثالين السابقين، يضمرُ تعبيرًا عن معاناةِ النبي يعقوبَ، وفقدِهِ ابنَه، وكفِّ البصر الذي أصابَه؛ لبيان معاناةِ أبي حامد في فقدِه ابنَه، وغيابِ أحفاده بسبب وحشِيَّةِ الاحتلالِ الصهيوني.
2- قصَّة «حنين... مغترب»: تتحدَّث عن حنين «أبي مسعود» العاملِ في السعوديَّة لزوجته وأولاده في مصر، وظروفِ العمل التي يعانيها في سبيل لقمةِ العيش، وهي ظروف كلِّ مغترب لتحسين وضع أسرته، وتجميع المال اللازم لتصاريف الحياة، كما يفعل الكثيرون من العاملين في السعودية، قادمينَ من البلدان العربية والآسيوية.
3- قصة «اغتراب... واقتراب»: هي التي منحت المجموعة القصصية عنوانها، وكأن أحوال الشخصيات في هذه المجموعة القصصية جميعها، مؤسسة على مسارات الابتعاد والاقتراب بين الشخصيات، أو بين طموحاتها وظروفها، أو بين ما تريده الشخصيات وما يريده الله لها... وهذا ينطبق على جميع قصص المجموعة.
مأمون في هذه القصة (يتيم الأم) حصل على بعثة دراسية في فرنسا، وهناك يلتقي بصديق الغربة أيمن (يتيم الأب)، وتتعمق عرى الصجداقة بينهما، وفي العطلة الانتصافية يعود طالبا الدراسة في البلد البعيد، فتجمع المصادفة والد مأمون بوالدة أيمن ويتم الزواج، وكأن الاغتراب الذي يمثله الابتعاد عن الوطن للدراسة قد أدى إلى اقتراب غير متوقع لعائلتين بالزواج على أرض الوطن.
4- قصة «الأجر في النهر» تتحدث عن حادثة سير تؤدي إلى سقوط حمار يجر عربة في النهر. في القصة وصف للطبيعة في الريف، وسحر المحيط الحيوي للأحداث التي تنتهي بالخير والتسامح، وأهمية علاقات المحبة والتسامح في مجتمعنا. تظل الصراعات عموماً في القصص قليلة، ويسيطر على القصص سرد الأحداث، وفضاء المحيط القريب من الكاتب هو الرياض والإحساء من معطيات المجتمع السعودي.
5- قصة «.. ذات يوم» تحكي قصة صديقين في سيارة واحدة، تصدمها من الخلف دراجة، لكن الأضرار بسيطة ويمكن تداركها. في القصة مراعاة المقيمين والوافدين إلى المملكة بظروفهم وحياتهم وهم يبحثون عن لقمة العيش وتدبر الأمور من دون مشكلات مع أحد، في مجتمع متوافق. في القصة وصف جميل للطبيعة الاجتماعية المحيطة... وفي المجموعة عموماً اهتمام باستخدام اللغة العربية الفصحى حتى في حوار شخصيات القصة التي قد لا تكون في المجتمع السعودي باللغة العربية الفصحى، لكن الكاتب فضَّل تطويع الحوارات إلى لغة أقرب إلى الفصحى المبسطة.
6- «قصة خجول..». في عنوان القصة السابقة الخامسة، ثمَّةَ نقطتان قبل العنوان للدلالة على نقص قد يكون «حدث ذات يوم»، وفي القصة السادسة نقطتان تدلان على كلام متوقع مثل هذه «قصة خجول سأرويها». القصة تصف تسلسل مشكلات يقع فيها أبو أحمد الخجول المتردد، تعود لشخصية لديها مشكلة في إظهار ذاتها أمام الناس، والقصة تعالج مشكلة نفسية موجودة في المجتمع، حين يعاني أحدهم في التعامل مع الآخرين، ويتورط أحياناً في العلاقة مع المحتالين، أو مع من يريد استغلال نفسيته وضعفه.
7- قصة «نحت الصخور..» تتحدث عن مراد الذي يحترق مخزنه وتتبدد ثروة عمره، ويبقى من دون مورد، فيضطر للعمل في محل نجارة، ثم يتركه ليعمل في محل لتكسير الصخور، وهو عمل لم يكن يتخيل أن يقوم به يومًا. «نحت الصخور..» في المجموعة القصصية هي أقصر قصة (صفحة واحدة)، وهي تقترب من القصة القصيرة جداً، أو القصة الومضة الشائعة هذه الأيام، تصف القصة تحول أحوال الناس وتغير متطلباتهم وطموحاتهم، واضطرار الفرد للعمل في مجال لم يكن يتخيل أن يعمل فيه.
8- قصة «في الطريق». فيها حمد وسالم صديقان في سيارة، تتعرض لثلاثة حوادث مرورية متفرقة، في طريقها إلى مدينة أخرى على طريق مدينة الرياض السعودية. القصة فيها مصادفات وحوادث من هموم الناس، مما يمكن أن يمُرَّ به أي شخص، وهي تكشف معادن الناس وسلوكياتهم الخيرة والشريرة، كما يجد القارئ في تصرف الصديق الوفي سالم، وتصرف الشحاذ الشرير الذي سرق المال من يد حمد.
9- قصة «الصديق الحاقد». وفيها يوظَّفُ التاجر أبو حامد الشاب أحمد عنده، وإذ يبحث «ثامر» عن عمل، يشغله أحمد بدوره معه، لكن الأمور حملت مفاجأة، إذ راح ثامر يحقد على أحمد ويدبر له وشاية عند التاجر أبي حامد، الذي يطرد أحمد من العمل بوشاية ثامر، ويعين الواشي محله. في نهاية القصة يكتشف أبو حامد الحقيقة، ويعيد لأحمد مكانته بعد أن يتفهم حقيقة ثامر الحقودة. تصور القصة الحقد بين الأصدقاء (كما جاء في عنوانها)، وقد اقترحت تسميتها «اتق شر من أحسنت إليه».
10- قصة «ليلة عريس..». الشخصية الرئيسة في القصة خليل، له صديق اسمه مروان، يخططان لمستقبلهما معاً، وبدأ خليل بالتخطيط لزواجه واختار عروسه؛ لكن ليلة العرس (محور حدث القصة) يختلف مع أهل العروس، فيغادر المكان ويلغى الزواج، هنا يتقدم صديقه مروان ليحل الإشكال بالزواج من العروس (التي كانت لخليل) منعاً لانهيار حفلة العرس، وبذلك تمت السعادة للجميع. في القصة تعامل أبوي مع حوادث الزواج وإيمان بالنصيب وتغليب إرادة الله: تواسي أم العريس خليل ابنها فتقول («اغتراب واقتراب» ص90): «إن هذا الأمر مقدر ولم يكتبها الله لك يا ولدي، والخيرة فيما اختاره الله، قد لا تكون هذه من نصيبك والحياة لن تتوقف من دونها». وهذا إيمان قوي بمشيئة الله والرضا بما حدث.
يلتزم الكاتب محمد النعيم بوحدة الزمان والمكان في القصة، وفي تسلسل الأحداث، فلا تجد عبثية للأفعال، ولا تجد في القصص الخطف خلفاً في رواية الأحداث، ورواية الأحداث تلقائية وكأن جارك يحدثك، أو أحد الأقرباء في بيئة معروفة؛ هي بيئة مجتمع المملكة العربية السعودية بناسها ووافديها وعمالها وفقرائها، وأغنيائها.
كل قصة تبدأ باسم صاحب القصة وبطل الأحداث اللاحقة، والأسماء مألوفة في محيطنا العربي الإسلامي (في البلاد الإسلامية نصف السكان بين أحمد ومحمود ومحمد وحمد ومأمون ومروان) وذلك تعبير عن تجذر القصص في البيئة الثقافية لمجتمعنا.
تجد الكاتب محمد النعيم متعاطفاً مع شخصياته ومحباً لها ومسوغاً لنقائصها، ومتضامناً معها بغض النظر عن أوضاع شخصياته الاجتماعية، فالكاتب يقبل هذه الشخصيات بسلبياتها وإيجابياتها.
أجريت تحليلاً إحصائياً لمكان الحدث الرئيس في قصص المجموعة القصصية، فكان المجتمع السعودي في تسع قصص، وفلسطين المحتلة في قصة واحدة، مع أن بعض الدول قد دخلت في سياق بعض القصص مثل مصر في الثانية، وفرنسا في الثالثة، من دون أن تكون محور الحدث.
في تسع قصص تتمحور الأحداث في المجتمع السعودي مكانياً، وفي شبكة العلاقات الاجتماعية تشكل السعودية محيط الكاتب وشخصياته، كما يسيطر الزمن الحالي على القصص العشر؛ بما يوحي بأنها قريبة مما تعيشه اليوم شخصيات مجتمعنا بأحوالها ومشكلاتها.
تتحدث القصة عن حيوات 34 شخصية فاعلة في الأحداث، منها 30 شخصية من الذكور و4 شخصيات من الإناث، وهذا طبيعي في مجتمع يسيطر فيه الرجال على الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية.. فالقصة تعكس واقعاً محيطاً ذكورياً كاملاً، نسبة النساء 11.76 % من شخصيات القصص بما يعكس أن الذكور هم الفاعلون في المجتمع. في المجموعة القصصية نسبة 12 % تقريباً وهي أقل بكثير من الإحصاءات الرسمية التي تصف مشاركة المرأة السعودية بنسبة 19 % من النشاط الاقتصادي للمجتمع السعودي. (ويكيبيديا، 2006).
في المجموعة القصصية مجمل الشخصيات خيرة، وتسعى للتصالح مع الواقع ومع مصائرها ومحيطها. لم يظهر الكاتب في 34 شخصية من القصة سوى 4 شخصيات شريرة هي: الجندي الصهيوني، والمحتال في «قصة خجول»، والشحاذ في «في الطريق»، وثامر في «الصديق الحاقد».. وهي شخصيات عارضة في القصص وليست أساسية أو محورية، فالحديث يتم عموماً عن شخصيات طيبة محبة للخير، وهي فكرة الكاتب الطيبة عن مجتمعنا، حيث الخير هو الأعم على الشخصيات في تفاعلاتها وتعاملها مع بعضها، وفي حرصها على مستقبل أفضل للجميع بمختلف فئاتهم، مهم أنه لا يوجد بين الشخصيات الشريرة أية شخصية نسائية.
مميز في المجموعة القصصية انتصار الخير في نهاية القصة، والميل نحو التصالح الذي يدل على مجتمع متسامح، وحريص على التوافق المجتمعي.
أرجو أن تكون هذه المجموعة القصصية للكاتب محمد النعيم بداية موفقة لمشاريع بحثية تالية: في القصة والرواية للأدب الواقعي في تاريخ الحياة المجتمعية؛ لتوصيف مشكلاتنا المتعددة المحيطة واقتراح الحلول لمستقبل أفضل لمجتمعنا.
** **
د. بلال عرابي - أستاذ علم الاجتماع - جامعة دمشق