خالد الغيلاني
يُعَدُّ جاك دريدا، وجوليا كريستيفا، وجان لوك نانسي، وميشيل فوكو، ولوس إيريغاراي، وجاك لاكان، ولويس ألتوسير، وجيل دولوز، وآلان باديو، فلاسفة؛ كان بعضهم بنيويًّا وأكثر، وبعضهم مجرد بنيوي لا غير إلا أن سؤال الهوية عندهم كلهم كان ذا مركزية في مشروعهم المستقبلي ومصدر قلقٍ دائم لهم؛ وقد فتحت تحليلاتهم الجديدة طرق فهم الذات ربما كانت جهودهم متابعة لثلاثة مفكرين أطلق عليهم ريكور لقب «سادة الشك» - فريدريك نيتشه وكارل ماركس وسيغموند فرويد - فنظر فلاسفة فرنسا في أواخر القرن العشرين إلى الطرق التي تُبنى بها الذات، ومدى جدوى الوعي من عدمه وكيف يتكون المعنى بالنسبة؛ لهؤلاء كلهم لسنا المالكين الفعليين ولا المطلقين لأفكارنا. إن ملكيتنا المزعومة لتتضعضع تحت طرق دوافع اللاوعي التي تؤثر على «غرورنا الذاتي» وتقلل منه، وإذا صححنا العبارة الفلسفية فنحن النتاج لا الإنتاج الحقيقي، الأثر لا المؤثر، كما قال هايدجر في اللغة إنها من تنطق الإنسان لا الإنسان من ينطق اللغة. ربما تكون هذه الفلسفة الواقعية قد تجد صورها في الديمقراطيات الشعبية والحكومات الجمهورية والحركات النسوية المتزايدة. لقد أفل نجم الفارس الذي لا يشق له غبار، والطبقة العليا والتنظيم الأبوي، وأصبحوا جميعًا في نطاق المفعول به لا الفاعل، الأثر لا المؤثر، الأداء لا المؤدي، حتى الشاعر لم يعد يحدد إلا من خلال الجمهور لا من خلال الصناعة العالية لذلك اقتربت فلسفة القرن العشرين من الأشياء التي ازدرتها الفلسفة القديمة أو أقصتها حتى أصبح الانقلاب على القديم سمة عامة، ومن هنا كانت السيرة الذاتية للحيوان عند دريدا قد تكون تعبيرًا عن التجرد من الأنا المتعالية، أو التجذر في الآخر غير المتوقع، إنه لهث الفيلسوف المتعب من نفسه ومن سؤالاته التي تؤرقه؛ إنه التشرد المر عندما أعلن للوجود أني لا شيء تمامًا لأقوم بتقديم الموجودات المنبوذة منذ أمدٍ غير قصيرٍ على أنها هي الأحق مني بما أنا عليه بعد زمانٍ من الإقصاء المتعمد، إنها لحظة من الضياع يعيشها الفيلسوف ولكنها لذيذة، إنها تجعله أكثر إنسانية أو أكثر إنصافًا مع الحيوان المتخفي داخله، إنها دفعة قوية نحو الآخر المختلف؛ إنها الاقتراب من الهوية المفقودة عندما أدع الآخر الذي كنت أقوم بالنيابة عنه بالتحدث وإطلاق الأحكام لأجعل له لسان صدقٍ عندما أحاول أن أفهمه بحق لأجعل تعبيري عنه أقرب لما هو عليه فعلًا.
ولقد قال روسو يومًا: «يبدو أني إذا كنتُ مضطرًا لعدم إلحاق الأذى بزميلي في العمل، فهذا بسبب كونه كائنًا عقلانيًا، وتبقى العقلانية جنسًا يندرج تحته كلٌّ من الحيوان والإنسان فيجب على الأقل منح المرء الحق في عدم تعرضه للإساءة دون ضرورة داعية لذلك من قبل الآخرين، دعونا نقوم بالشيء نفسه ونمارس هذا الحق مع الحيوان».
إلا أن روسو قد يكون في حديثه عن العقلانية يعبر عن فترة فلسفية معينة عندما كان العقل والتعقل والروح العاقلة محور الفلسفة الحديثة قبل أن تصعد نحو الإنسانية لتضفي إحساسًا عاليًا تجاه الآخر الذي قد يكون أنا وأنت وقد يكون حيوانًا ولكن هذا الحيوان لا يخلو من الاقتصاص طبعًا من عموميته فيقال وقد يكون حيوانًا أليفًا لأن الحيوانات المتوحشة والمؤذية تخرج من هذا السياق حتمًا عند عمدية الأذى. لقد كتب دريدا The Animal That I Am وهو بالفرنسية L›Animal que donc je suis وهو كتاب يستند إلى عنوان مدته عشر ساعات حول موضوع «السيرة الذاتية للحيوان» قدَّمه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في مؤتمر Cerisy لعام 1997 وبعد ذلك نُشر كمقال طويل بعنوان «الحيوان الذي أنا عليه»، واكتسب الكتاب شهرة لأنه يشير إلى تحول دريدا إلى الأسئلة المتعلقة بأنطولوجيا الحيوانات غير البشرية، وأخلاقيّات ذبح الحيوانات، والاختلاف بين البشر والحيوانات الأخرى. أصبحت محاضرة دريدا نصًا أساسيًا في الدراسات الحيوانية في مجالات النقد الأدبي والنظرية النقدية. بينما يُنظر إلى النص غالبًا على أنه يشير إلى «منعطف الحيوان» في أعمال دريدا، إلا أن دريدا نفسه قال إنّ اهتمامه بالحيوانات موجود في الواقع في كتاباته المبكرة وقد ولد جاك دريدا، في الجزائر يوم 15 يوليو 1930 - وتوفي في باريس يوم 9 أكتوبر 2004. ويعد أول من استخدم مفهوم التفكيك بمعناه الجديد في الفلسفة، وأول من وظّفه فلسفيًا بهذا الشكل وهو ما جعله من أهم الفلاسفة في القرن العشرين، وعبّر عن نيته في جمع نصوصه في عمل كبير عن الحيوان، وقد نمرّ سريعًا على هذه المحطات المقتضبة:
- عام 1997 مؤتمر cerisy استمر 10 أيام حول عمله.
- نشرت المقدمة تحت عنوان «الحيوان الذي أنا عليه».
- في عام 2003 نشر نصًا تكميليا «And say the Animal Responded « ليتم إدراجه ضمن النصوص غير المنشورة التي قدمها في العدد الخاص من Les Cahiers de L›Herne.
- يذكر دائمًا أن مسألة الحيوان حاضرة في نصوصه، وينبع ذلك من أمرين:
1 - حساسية خاصة محتدّة وتعاطف مع جوانب الحياة الحيوانية التي أهملتها الفلسفة أو ازدرتها.
2 - أولى أهمية لسؤال بنثام «هل يمكن أن يتأملوا؟» وليس السؤال ما إذا كان بإمكانهم التفكير وما إذا كانوا يستطيعون التحدث ولكن ما إذا كانوا يستطيعون المعاناة.
- معاناة الحيوانات لا تتركه أبدًا غير مبال.
- المدخل تعريف الفلسفة للإنسان بأنه حيوان عقلاني باعتباره حيوانًا لكنه يتمتع بالعقل.
- السلبية المفروضة على الحيوان تجعله محرومًا من كل ما يتمتع به الإنسان.
- الكلام/ العقل/ تجربة الموت/ الحداد/ الثقافة/ المؤسسات/ التقنيات/ الهدايا/ الضحك/ الدموع/ الاحترام... هذه أشياء استولى عليها الإنسان وتبجح بامتلاكها وحُرِم منها الحيوان مع أن بعضها لا يُسلَّم تمامًا أن الإنسان خُصَّ بها فقد يوجد بعضها لدى الحيوانات ربما الإنسان قد يكون أعمق فيها وأكثر تنظيمًا أو إبرازًا لكنها موجودة لدى الحيوانات بصورة أو أخرى ربما تختلف الدرجة كما ذكرنا.
- رفض للحيوان في الفلسفة القديمة والممارسة الحالية.
- المركزية اللوغارتمية.
- محروم من امتلاك الشعارات.
- هناك نسق فلسفي رافض «الموقف أو الافتراض المسبق» الذي تم الحفاظ عليه وتنميته من أرسطو إلى هايدجر من ديكارت إلى كانط فليفيناس ولكان كما لو أن جميع الحيوانات من دودة الأرض إلى ما فوقها تشكل مجموعة متجانسة يرمز لها «هي» يعارضها «هو» المتجسد في الإنسان.
- نهايات الإنسان/ عبور الحدود/ السيرة الذاتية للحيوان/ نظام محدد سابقًا/ آلة العناية الإلهية كما يقول كانط خصوصًا الحيوان/ البصيرة الغامضة/ حدود الإنسان/ عبور الحدود.
- استسلم للحيوان الذي بداخلي للحيوان الذي لا يرتاح مع نفسه.
- نيتشه: I no longer remember where وكأنه يشير إلى شيء ما إلى أنه حيوان غير محدد حتى الآن حيوان يفتقر لنفسه.
- نيتشه في جينالوجيا الأخلاق: « that man is promising animal»
أي حيوان يسمح له بتقديم الوعود.
- الطبيعة أعطت نفسها مهمة تدجين تأديب تربية هذا الحيوان الذي يعد.
- نحو الاستسلام لوعد الحيوان الذي لا يرتاح مع نفسه.
إن العبارة الصالحة للتعبير المقبول نوعًا ما هي انكشاف الإنسان مع ما حوله انكشافًا يعري هذا الذي يجهل من هو وما هو عليه. قد يمرّ بأحدنا موقف يتصلب فيه إلى أقصى درجة فيمر على صخرة في طريقه تتفتت وقد يشعر عندها بمقدار ما كان عليه من قسوة وتجد هذا التعبير القرآني {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء}. إنه يرشدنا لتلمس ذواتنا في هذا الوجود حتى نكشف عن حقيقتنا. إن ادعاء الإنسان امتلاك الحق واحتفاظه بالحقيقة الكاملة دعوى لا يسعفها النظم القرآني الذي يجلي لنا أنفسنا من خلال الوجود كمعيار ودليل نحو الكشف والبحث فما بالك في الإنسان الذي هو أرقى الموجودات الذي يعد الكشَّاف الأمثل لذلك جاء الحديث النبوي «المؤمن مرآة أخيه»، وهذا الآخر درجات، فالشجر هو من هذا الآخر بدون شك، حتى الحجر يترقى في سلم الكشَّافين مرورًا بالحيوانات حتى يصل للإنسان، ولكن مع ذلك فقد مررت على كلمة لابن تيمية -رحمه الله- يقرر فيها حقيقة عند من يناقض أمرًا بتقريره أن هذا عالمنا وهذا وجودنا وهذه الدنيا دنيانا القائمة على ما هي عليه فمن طلب غير ذلك فليبحث عن وجود آخر يختلف عن وجودنا الحالي. وربما يكون هذا الجواب على كثير من المسائل التي لا تفسير لها إلا في قبولها كما هي. وقد عبر القرآن تعبيرًا واضحًا عندما قال {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}. إن الإنسان يبحث عن الحرية والانطلاق والانفلات من كل الحدود ولكن أعلى درجات الحرية في نظري هي في القيود أو في القيد الذي يلفنا حتى نكون آمن ما نكون. إن المتحرر الحقيقي هو الذي يربط على قيوده عناقيد من الزهور ولذلك تأتي عبارات التطوير الذاتي وهي كثيرة جدًا بما يسمى بالتكيف وتقبل الوضع القائم وتحسين الموجود وفي مدارس السلوك ما يعرف بالقناعة لأن هذا حقيقة قوله تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} فنحن محاطون تمامًا لذلك جاءت الآية تبين {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} حتى أن سارتر في إلحاده كان ينازع الإيمان بالإله بشدة إنه لحظة من الانفعال ضد شيء لا مفر منه عندما ذكر أنه لا يتحمل إله يحدق إليه دائمًا ولم يقل ينظر. إن التحديق في نظره كان يولد قلقًا عنيفًا إنه يحاول أن يبحث عن الحرية إنه يريد أن يكون حرًا ولكنه أخطأ الطريق فنحن المحكومين لا الحاكمين هو قدرنا فلنقبل به عن طيبفس لذلك كان الإسلام هو الاستسلام. ومهما أغرقت في المباحث الفلسفية فربما تستمتع بالوجود الذهني لأن عالم الذهنيات كما هو معروف في علم الكلام وعند المناطقة يخالف الواقع؛ فالوجود الواقعي يختلف عن الوجود الذهني وهو يختلف عن العالم الذي نحن فيه ونعيشه كما يقرر ابن تيمية -رحمه الله-. ولا أريد أن أطيل ولا أفيض في الشرح لأن قضية الابتلاء هي أصل في وجودنا فقد أُعطينا مواهب كثيرة وعقولاً جبارة ليرى الله كيف نحن وماذا نعمل. والله الغالب على أمره. ربما تكون قطة دريدا التي هي مدار مؤلفه «الحيوان الذي أنا عليه» مدار كلامنا فلا يخفى أن الإنسانية بدأت تتجلى أخيرًا في الفلسفة والشعر من جان لوك حتى فولتير حتى ظهور المدارس الرومنتيكية والتأملية عندما أصبح البحث في الإنسان بدلاً من البحث في الوجود هو مدار الفلسفة وهذا ما يجعلنا نتأمل سر الاقتراب من الجسد وإقصاء الثنائية ليكون الجسد وحده كما يرى فوكو هو التأويل الصارخ لإنسانية الإنسان. وإذا قلنا الجسد فإنه يعني بدون شك الاقتراب من الحيوان فكما مرت الفلسفة بممرات عديدة منذ أورغانون أرسطو والتقسيمات العقلية الصارمة حتى كان الانقلاب الكوبرنيكي مرورًا بغاليليو حيث أصبح مفهوم الانقلاب على الماضي بما حمله من إقطاع وقسوة كنسية لتحل محلهما الإنسانية والرحمة حتى تجاوزت الإنسان إلى عمقه الحيواني وهو تجاوز قد يكون له مناسبته. فعندما تقرأ {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} فهذا الترابط المتواشج يدل على صلة خفية، فهذا الراعي الذي يقضي جل نهاره مع خرافه في المراعي، وهذه الدابة التي تحمل الراكب في حروبه وأسفاره وتساعده في حرثه وزراعته لتدل على علاقة خاصة واتفاق على شيء قد يكون غامضًا ولكنه يتجلى من حين إلى آخر ليضعك في دهشة الوجود وحيرة المكان وغرابة المصير، فالفارس العربي كان يبدي عن مكنونات الخيل ومنطوياته الغائرة فيقول عنترة عن خيله:
فازورّ من وقع القنا بلبانه
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكا
ولكان لو علم الكلام مكلمي
وسورة العاديات تصور قمة الوفاء العظيم من الخيل، واقرؤوا معي: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}، وما بعدها من الآيات إلى أن يقول الله: {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}. فالحيوان قد يكون وفيًا في قمة الوفاء لصاحبه مع أنه لو أطلقه لوجد في شعاب الأرض ووهادها غناه ورزق يومه لأنه لا يطلب أكثر من قوت يومه له ولصغاره مع أنه يقوم ببناء مجد الإنسان ويعمل على إضفاء الأبهة في حياته هذا هو الحيوان المنسي إذا أخذنا لفظة الحيوان من آية {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} من معنى ضجيج الحياة ودوي الإرادة للبقاء إلا فنحن نعلم أن الدودة التي أشار لها دريدا من الحشرات، هذا الحيوان الحشري الذي سمى الله به سورًا من النحل فالنمل فالعنكبوت التي عُدَّ بيتها أوهن البيوت، وإذا رأينا المثل المضروب بها على من اتخذ أولياء من دون الله كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لوجدنا أنَّ اختلاف الأمثلة يبين لنا أن هناك كاملًا ينكشف للكائنات فالعنكبوت راضية تمام الرضا عن نفسها وحياتها بغض النظر عن اتفاقها في التسبيح الجامع للمخلوقات، ومع ذلك يخبر الله عنها بأن بيتها أوهن البيوت لأن هناك بيوتًا أكمل، ومن يدرك ذلك الإنسان بالطبع يدرك ذلك لأنه المراد الخاص في الوجود وربما طائفة من الحشرات والحيوانات تدرك ذلك ولكن هل تدرك ذلك العنكبوت ربما لو كانت تدرك ذلك لسعت لعمل بيتٍ في مكان آخر ولكن هذا مبلغ علمها ولذلك فالكمال نسبي، ربما أنت ترى شيخك كاملًا لأنه بالنسبة لمحدوديتك القاصرة يعتبر مثالًا أكبر ولكنه بالنسبة لآخرين هو دون ذلك والكمال ينبئ عنه الاختيار السابق {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ}، وهذا مقتضى الدرجات عند الله {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ} وإذا رجعنا إلى نظرية التطور وهناك من دافع عنها بشدة ورأى أن أصل الحيوانات والإنسان واحد، والحق أن هذا لا يعارض النص صريحًا ولا يناقض خلق آدم بيد الله ولا تكريمه عمومًا هناك من يقول به وهو قريب مع شيء من التأمل ولا يجزم به إنه محتمل جدًا لكن الإنسان يريد أن ينفرد بالخصوصية وبالعلو وقد جاء في الآثار الإسرائيلية ذكر الثور والأسد تنبئ عن أحوال هيئات العلو ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقرًا تذبح إشارة إلى أصحابه كل ذلك يدل على الصلة القوية بين الإنسان والحيوان. لكن لنرجع إلى قطة دريدا التي تنظر إليه وهو عارٍ فولدت له قلًا وخجلًا من نظراتها إليه هل العري هو فقط للحيوان وهل الحيوان يعرف أنه عارٍ ولماذا الخجل الذي يعتري الإنسان ولماذا ربط الله بين الذنب والعري {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}، ولماذا كان النهي عن الأكل ولم يكن عن القطع، ونرجع مرة أخرى لآية {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} حتى قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} أصحاب العقول الكاملة حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إطعام الطعام من أسباب دخول الجنة، ولكن الإنسان أضفى نوعًا من الإتيكيت جعله يترقى عن الحيوانية فهو يتفنن في تزيين السفرة وطرائق الأكل وآداب الطعام مع صناعة البهجة والمتعة والمشاركة فيدعو غيره ويؤثر من يؤثر كما يفعل تمامًا في آداب السرير والاحتفال بإعلان النكاح وطريقة المضاجعة لزوجه ويشرع في فنون الغزل قد تكون موجودة عند الطيور والحيوانات عندما يقوم الذكر برقصات لإثارة إعجاب الأنثى ولكنها تظل فطرية أو بعبارة أخرى ليست فنًا يكتسب أو يدرس أو لنقل أكثر عمقًا وتجربة. وفي هذا كما ذكرنا من الدلالة على مشاركة الحيوان للإنسان في أصل الشيء ولكن يظل الإنسان الأعمق والأقدر على التعبير بصورة أكثر إيحاء إلى الشيء نفسه وأكثر إسهابًا وشعورًا أطول وتفننًا وطرافة.
«نرجع» لماذا ذكر القرآن بالنهي عن الشجرة {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} وقد فهمنا أن النهي عن الأكل وإنما عبر بلا تقربا كقوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} ولم يقل لا تزنوا كمنع للوسائل، وهل الشجرة رمز للجامع بين الإنسان والحيوان لأنهما الشيء الذي يتفقان فيه في درجة أعلى عن اللحم لأن الطب يقرر أن أكل اللحم يكون بقدْر للأمراض التي يسببها فيبقى النبات الجامع الأفضل ربما كان الأكل هو الصورة الحقيقية للطينية لذلك جاء الصيام إعلاء لقيمة الإنسان لأن الله يُطعم ولا يَطْعَم حتى الأموال جاءت بلفظ {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}.
«نرجع» للعري لماذا كان مقتصرًا على الإنسان لماذا الحيوان بمنأى عن ذلك؟ كثير من الأمور قد نتفنن في إيجاد الحكم لها ولكن تبقى أن فهمها يكون بقبولها كما هي لأنه التفسير الحقيقي لها، فالأم قد يُفسر حنانها بحملها وامتزاج الوليد بلحمها ودمها وتغذِّيه عليها، ولكن الطفل خرج من الأب وتسمى باسمه ويبقى حق الأم أعظم مع أن النسبة للأب ولكن البر الأوفى للأم فهلّا كانت النسبة للأم ربما كان التعليل بحفظ الأنساب تعليلًا مقبولًا لأن الأم قد تتزوج غير أبيه فينتسب الجميع للأم فتختلط الأنساب فكون الأب أصلًا لا يعني أنه الأفضل إلا عند وجود الأصلية المطلقة فآدم أصل ولكن إبراهيم ومحمد أفضل فلا يعني الأصل التكويني الأفضلية ولا الأصل كقاعدة أنه يعم جميع الجزئيات؛ فالأصل في المعاملات الإباحة، ولكن ليست هذه على إطلاقها
والأصل في السفر القصر ولكن بعضهم يستثني السفر المحرم.
قال ناظم المراقي:
وما للاجتهاد من شرط وضح
ويطلق الأصل على ما قد رجح
وهو في رأيي رجوح نسبي إلا عند الطلاقة التامة التي لا توجد بدون مخصصات فلو قال قائل: القرآن الأصل أنه كلام الله.
قلنا: هذا خطل من القول بل الصحيح أن يقال القرآن كلام الله فلتفهم.
لأن الأصل يعني استقراء لأنواع وأجناس فيحكم لنوع أو جنس أنه أصل كقاعدة مطلق الأمر والنهي في الأصول وقولنا الإجماع حجة والقياس حجة فالقياس الأصل أنه حجة وهناك أنواع من القياس فيها خلاف.
فالأم لا تفسر برحمتها بل لأنها أم، والله عندما علل لأحقيته سبحانه بالعبودية بكثير من الآيات الدالة على أنعامه والحجج الدالة على وحدانيته فهذا حسن عند من غلظ حجابه وأما العارفون فإنهم يدلون بالله لا عليه. فقطة دريدا التي يلهو بها قد تكون هي من تلهو به لا هو من يلهو بها. إن كوني حيوانًا واعترافي بحيوانيتي بوجود القدر المشترك بيني وبين الحيوان لشيءٌ جميل. إن الإنسانية مذهب لطيف وجميل متى كان بابًا وطريقًا إلى فهم الآخر. إن النص لا يصادم كثيرًا من القضايا حتى لو كان هدفها باطلًا إلا بقدر إنكار الباطل فعلي قال «كلمة حق أريد بها باطل» فالمناقضة والاختلاف مع الهدف لا مع نفس الشيء من جهة اشتماله على الحق أو بعض الحق لأني أؤمن أنه لو كان هناك سواد خالص حالك تمامًا لآذن الله بنهاية الكون كما جاء في الحديث أن الساعة تقوم على شرار الخلق عندما تقبض كل روح مؤمنة، فبقاء الخيّرين من بقاء الأرض ووجود الخير المدخون أو بالتعبير النبوي «على دخن» أو وجود الشر من وجه لا من كل الوجوه هو سبب في استمرار الحياة، ويكون دورنا في إكمال النقص أو تقليل الشر أو إكثار الخيرية، والنص كما أرى في كثير منه مقيد بفاهمة المتلقي فقط، فحديث «لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة» اختلفت أفهام الصحابة فيه، وعللوا النص ولم ينكر عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من صلى العصر في وقتها، وقال أراد النبي الإسراع وهو الصحيح، ومنهم من التزم حرفية النص وصلى العصر مع المغرب.