د.محمد بن عبدالرحمن البشر
وصف أحد الإخوة رحلته إلى مدينة أبها في الأسبوع الأخير من الشهر السابع لهذا العام عشرين اثنين وعشرين ميلادي مع ثلاثة من رفاقه، وقد سبق أن أتيح له زيارة مدن كثيرة من مدن العالم، بل والعيش فيها، ووصف ما لقيه وما رآه في مدينة أبها، والبهجة والسرور تعلو محياه، فقد كانت المقارنة ماثلة أمام ناظريه، وهو يبدع في سرد ما شاهده بأم عينه في منطقة كريمة من مناطق المملكة الغالية.
وصف الطقس الخلاب الذي يتجاوز الوصف، فما يكاد الفجر يطل، والصبح يسفر، وخيوط أشعة الشمس تبزغ لتتسلل رويداً رويداً، حتى يلوح في الأفق كساء من الضباب الأبيض الناصع، وكأنه انعكاس لأشعة الشمس على كتلة من الثلج في المحيط المتجمد الجنوبي، وتمر كتل السحاب الخفيفة البيضاء الذي يبدو أنها قد نفضت ما بها من ماء، لتعطي كل صباح مشرق مسحة من الجمال والأمل والتفاؤل بيوم يحمل في طياته الخير والسرور، وتيسير الأمور، ويستمر ذلك المنظر البهيج منذ إشراق الشمس، حتى منتصف الظهيرة حيث تبلغ الساعة الثانية أو ما بعدها، فينعم الإنسان ببهجة لا توصف.
بعد الساعة الثانية تقبل السحب الركامية السوداء الجونية، وهي تهدر بصوت الرعد، كأن صوته جلمود صخر حطه السيل من علٍ، كما يقول امرؤ القيس في وصف فرسه، وتلوح البروق كسيوف صقيلة في كل الاتجاهات بين ركام سحب الجون المظلمة، وشتان ما بين جمال بروق كالسيوف تتخلل السحب، وبين تلك السيوف التي يصفها بشار بن برد، في وصفه البديع للسيوف وهي تنهال على رؤوس الأعداء والغبار يعلو في سماء المعركة، حيث قال:
وكأننا والنقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ومن العجب أن هذا البيت من الشعر الرائع، وتصوير المعركة بهذه اللوحة، يصدر من شاعر ضرير لم يشارك في معركة قط، لأنه أصيب بالعمى وهو صغير على إثر مرض الجدري.
وهاك الوصف الجميل في كتاب لأبي الوليد إسماعيل بن عامر الحميري، ينقل عن أبي عامر الرمادي شعرًا، وهو يصف السحاب وقد بدا يسير رويداً رويداً، ليكسو السماء، ويسبقها صوت الرعد، وبريق البرق، حيث يقول:
قامت رواعدها بدق طبول
في حربها وبروقها بنصول
بكت السحاب على الرياض فحسنت
منها غروسا من دموع ثكول
فكأنها والطل يشرق فوقها
وشي يحاك بلؤلؤ مفصول
غلبت على شمس النهار فألبست
منها ظهيرتها ثياب أصيل
وهذا الوصف يدفعني إلى تذكر ذلك البيت الذي قلته في وصف غادة تطل من شرفة المنزل، ثم تغيب وتعود، فكأنها شمس تشرق تارة بين السحاب وتغيب، أو ذلك الذي وصف خد حبيبته بعد أن التفتت إليه، كبرق كشح في واد سائل، أليس طقس أبها البهية يحمل تلك المعاني وأكثر منها.
ولا تكتفي سحب مدينة أبها بالزيارة فحسب، بل تنثر لؤلؤها المائي سحاً غدقاً، يختفي بسرعة من سفوح الجبال ليتسلل إلى بطون الأودية والشعاب الكثيرة، ويبقى ما حجزته السدود، أو المدرجات الزراعية التي اعتاد سكان أبها منذ آلاف السنين على صنعها وزراعتها بما تجود به الأرض، ويرضى به الطقس من صنوف أشجار الفاكهة، والخضروات، وإليك وصف لأبي أيوب سليمان بن بطال، كأنه يصف أشجار أبها، يقول:
كأن الغصون لها أذرع
تناولها بعض أصحابها
وقد أعجب النور فيها الذباب
فيهزج من فرط إعجابها
كأن تعانقها في الجنوب
تعانق خودٍ لأترابها
كأن ترقرق أجفانها
بكاها لفرقة أحبابه
واستطرد أخونا الكريم في وصف رحلتهم إلى مدينة أبها، فذكر أنهم ركبوا سيارتهم بقيادة أحدهم الخبير بدروب أبها، وجبالها، ووديانها، وكان عليهم أن يتحملوا النزول والصعود الحاد من جبل إلى آخر للوصول إلى وادٍ فسيح كثير الأشجار المتقاربة الخضراء. اليانعة، فحطوا رحالهم هناك، وأخذوا في تحضير الغداء، فتم لهم ما أرادوا مع ما يصاحب ذلك من الإدلاء بالآراء المتباينة، ثم أكلوا طعامهم، تحت ظل الشجر الأخضر الكثيف، والسحب تغطي السماء، لتضيف إلى أبها بهاءً مع بهائها، لكن ما كادوا ينتهون من تناول الطعام حتى أقبل هدير الرعد، ولمعان البرق كأنه سيوف مسلطة لشق السحب التراكمية الجونية السوداء المظلمة، لتخترق ذلك الجون فينهمر المطر، في منظر جميل لم يصاحبه ريح، ولا برد قارس، وإنما تزاوج بين جمال الأرض والسماء، ونسيم يرفل بالنقاء، وعبير العرعر، الذي تضفي نفحاته بهجة على بهجة.
لا تكاد تسير في شارع من شوارع أبها إلا وترى لوحات سيارات من إخواننا في الخليج المرحب بهم يملؤون كل مكان حتى لا تكاد تجد مطعماً إلا وقد امتلأ بالزوار، هذه هي بلادنا الآمنة المستقرة، المتنوعة في طقسها، وتضاريسها، والحمد لله على ما أعطى والشكر للقيادة الحكيمة.