د. عبدالحق عزوزي
من اعتاد زيارة أوروبا في شهر الصيف وخاصة في بلدان مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا وإسبانيا والبرتغال، لابد وأن يكون قد لاحظ موجة الحر الشديدة التي عمت هاته البلدان، ولابد وأن يكون قد تابع النقاشات العمومية في تلكم البلدان عن الجفاف ومخلفاته وعن درجة «التأهب» القصوى لتزويد المناطق المتضررة بالماء الصالح للشرب ثم لا بد وأن يكون قد شاهد شاحنات كبيرة تنقل الماء إلى المقاطعات المتضررة...
وأنا أكتب هاته الأسطر، فإن أكثر من مائة بلدة في فرنسا لم يعد لديها حالياً ماء صالحاً للشرب وهو ما لم يقع في تاريخها قط؛ ففرنسا لم تعد تلك البلدة التي عهدناها عندما كنا ندرس فيها حيث تنزل من المعصرات ماء ثجاجاً على طول السنة؛ فهناك اليوم مدن ومقاطعات وجهات بأسرها تشكو نقصاً في ماء الشرب وتتم عمليات التزود من خلال شاحنات نقل الماء... بما أنه لم يعد هناك شيء في القنوات... كما تخضع في فرنسا 93 منطقة من أصل 96 لقيود تخص استهلاك الماء بدرجات متفاوتة، بينما تمر 62 منطقة «بأزمة».
كما أنشأت الحكومة الفرنسية خلية أزمة وزارية للنظر في «الوضع التاريخي الذي يمر به عدد كبير من المناطق... ففي شهر تمّوز/ يوليو الماضي تم تسجيل ثاني أعلى نسبة جفاف في فرنسا بعد تلك التي سُجلت شهر آذار/ مارس من العام 1961، وقد ترافق ذلك مع تراجع سقوط الأمطار بـ84% مقارنة بالمعدلات العادية في الفترة الممتدة ما بين 1991 و2020.
إن تواتر موجات الحر يجعل من تداعيات الاحتباس المناخي واقعاً ملموساً في فرنسا وله تداعيات مباشرة خصوصاً على الزراعة والملاحة النهرية والأنشطة الترفيهية المائية. والشهر الماضي، لم يتعد إجمالي التساقطات 9.7 ميليمترات في الأراضي الفرنسية الأوروبية، وهو نقص بنسبة 84 % تقريباً مقارنة بالمستويات الاعتيادية؛ وحذرت خدمة الأرصاد الجوية الفرنسية من أن «هذا النقص الشديد في التساقطات المسجل بعد ربيع جد جاف والمصحوب بموجات حر شديد يؤدي إلى تفاقم تجفف التربة».
وعلى شاكلة فرنسا، تشهد دول في الاتحاد الأوروبي موجات حر وجفاف استثنائية... فبريطانيا خضعت لضغط جوي حاد الشهر الماضي، حيث شهدت ارتفاعاً في درجات الحرارة للمرة الأولى تفوق 40 درجة مئوية. ويبقى الوضع خطيراً جداً بالنسبة لإنكلترا على وجه الخصوص إذ اعتبر شهر تموز/ يوليو الأكثر جفافاً منذ العام 1935، وهذا ما جعل السلطات توقع مرسوماً يحظر ري الحدائق أو غسل السيارات أو ملء أحواض السباحة الخاصة في هامبشاير وجزيرة وايت، كما أن حدائق لندن المعروفة بجماليتها وبألوانها الخضراء، بدأ يسيطر عليها الجفاف... كما أن السلطات الهولندية أعلنت منذ أيام حال «النقص الشديد للماء»، ونبهت إلى أن هناك إجراءات جديدة قد يتم تفعيلها.
ثم إنه لا يجب أن ننسى الحرائق المهولة التي تأتي على الأخضر واليابس في أوروبا والعديد من دول العالم...
زد على ذلك أن البنك الدولي يحذر من أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بين أكثر الأماكن على الأرض عرضة للخطر نتيجة لارتفاع منسوب مياه البحر، خاصة المناطق الساحلية المنخفضة. كما توقع أن يتعرض عشرات ملايين البشر في المنطقة لضغط نقص المياه بحلول عام 2025... وشح المياه نتيجة الجفاف سيؤدي بدوره إلى زيادة الضغط على موارد المياه الجوفية وإلى قلة المحاصيل الزراعية، مما سينعكس على اقتصاد هذه الدول...
إن الحرارة في العالم سترتفع بواقع 1.5 درجة مئوية، وستتكرر الموجات الحارة الشديدة باستمرار وذلك بسبب الاحتباس الحراري العالمي. وهذا الكلام الذي نكتبه ليس من وحي الخيال؛ إنما هو واقع بدأنا نعيشه وهو مسطر في تقارير علمية جادة لا غبار عليها، كتقرير الأمم المتحدة الذي نشر منذ سنتين عن الاحتباس الحراري وهو ما جعل الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش في إطار تعليقه على هذا التقرير يقول «إنه إنذار أحمر للبشرية. أجراس الإنذار تصم الآذان: انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن الوقود الأحفوري وإزالة الغابات تخنق كوكبنا».
إن النشاطات البشرية هي التي تتسبب في كل هاته المصائب؛ والعالم لا يتعظ، ولا تنظر الدول إلا إلى مصالحها الخاصة والضيقة.. والمصيبة أن تداعيات أزمة المناخ تصيب دول العالم بأسرها وإن لم تكن طرفاً فيها كما هو شأن دول إفريقيا.