أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: المعادلة مفاعلة من الفعل عَادَل، وتعني تتابع أفعال.. [قال أبو عبدالرحمن: بينت كثيراً أن المفاعلة ليست أصلاً في تجاذب أفعال من طرفين كما يقول جمهور الصرفيين؛ بل هي تتابع أفعال وحسب سواء أكانت من طرف واحد مثل سافر، أم من طرفين مثل ساير] لإظهار تسوية تامة بين شيئين.. في الأحكام كالمنافع، أو الأوصاف، أو المقادير.. إلخ، أو مفارقة تامة، أو تسوية جزئية بين عناصر الشيئين، وذلك على سبيل اليقين، أو الرجحان، أو الاحتمال المستوي الأطراف أو الطرفين.. والعولمة الراهنة كانت تلقائية في العالمين العربي والإسلامي بمنطوق قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) !!.. إلا أن بروز العمل التنظيمي للعولمة بالإغراء، والضغوط، والإكراه سيقضي على التلقائية البليدة البلهاء، وستعود الأمة إن شاء الله إلى خصوصيتها في التمسك بالجذور، والتغذي بالجديد البرهاني، والعولمة بانتقائنا البرهاني لا تخيفنا؛ لأن مقتضى ديننا: أنَّ الحق ضالة المؤمن.. والأخذ، والرد، والإعطاء، كل ذلك عن برهان: فحولة في الفكر، ومتعة في الوجدان، وكل ذلك هو الرجولة المعتد بها في زحام العولمة، وبيان ذلك: أن معايير الحكم الموجه لسلوك العقلاء ثلاثة لا رابع لها ألبتة: الأول أن أنفي، أو أثبت، أو أحتمل: وجود ذات، أو حال: بفطرة العقل، ومذخور التجربة، وشاهد المعاينة، وأن أعرف مصادر الخطأ والصواب، والكمال والنقص، والعدل والجور.. إلخ.. إلخ.. وذلك هو معيار الحق.. والثاني أنْ أعلم أن هذا السلوك نافع أو ضار، ومربح أو مخسر، وراجح النفع أو مرجوحه، وذلك هو معيار الأخلاق.. والثالث أن أجد أن ذلك الإدراك الحسي سار مبهج، أو بارد فاتر، أو سيىء يثير التقزز والغثيان والانقباض، وذلك هو معيار الجمال, وهذا المعيار مجرد علم بالوجود في الذات، ورصد لمواصفات الموضوع الذي صدر عنه وجدان جمالي، والمعايير الثلاثة يصدر عنها ملذات نفسية (إدراك الحس الباطن)؛ إلا أن الفيلسوف (بومجارتن) أغفل اللذة العقلية التي تكون وجداناً قلبياً عندما نحت كلمة (استطيقا) للدلالة على علم الجمال.. [انظر (الموسوعة الفلسفية المختصرة) ص 280]؛ فكانت اصطلاحاً فلسفياً فنياً على علم الجمال أصبح فيما بعد يشمل أيضاً لذائذ الأخلاق.. المصدر السابق ص 281.
قال أبوعبدالرحمن: وعلى أي تقدير فلذائذ الجمال والأخلاق ذات حكمين: الأول حكم إثباتي وصفي لما في الذات والموضوع.. والثاني حكم تقويم يستند إلى قيمة الحق، وذلك بفحص الذات المدركة بصيغة اسم الفاعل الرباعي: هل هي سوية في المعادلة بين الغرائز والنوازع، وهل لنداء العقل سلطان عليها، وما مدى اقتباسها من المعارف والعلوم؟.. وبقدر التدني عقلاً وعلماً يكون الذوق متدنياً؛ فيكون الموضوع الذي طبع له جمالاً ذاتياً بارداً، أو قبيحاً عند العقلاء والعلماء.. وكل دين صحيح الثبوت عن الخالق سبحانه فهو برهاني بقيمة الحق؛ إذن.. [قال أبو عبدالرحمن: تمنى أحد علماء اللغة العربية القدماء أن يكوي يد من يكتبها هكذا إذاً] معيار الحق هو الحاكم في قيمتي الخير والجمال، والعقل بملكاته، ومذخوره، وشاهده من المعاينة الحسية الراهنة هو الذي يصنِّف الذوق الجمالي والخلقي تصنيفاً فئوياً حسب وضعية الجماعات عقلاً، وتديناً، وقوة فكر، وسعة علم، وهو الذي يبتغي المثل الأعلى لكل إدراك حسي باطني (جمالي، أو خلقي)، فيكون السمو ما أمكن إلى الكمال هو القائد لكل أستطيقا.. [قال أبو عبدالرحمن: إيراد اللفظ الأجنبي اقتراض، والتعريب بثلاث كلمات هي الإدراك الحسي الباطني ، والاقتراض حيئنذ أولى].
قال أبوعبدالرحمن: ومما يطرح للمعادلة جانب العولمة الثقافية، وهي (أي عولمة الثقافة في الجانب المرفوض منها) تساوي (الثقافة المضادة)، ويأتي بيان هذا المصطلح إن شاء الله، والثقافة مصطلح حديث لم تعرفه لغتنا، ولا تراثنا الاصطلاحي.. [مثل التعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء، ودستور العلماء للأحمد نكري، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي] بالمعنى الاصطلاحي الراهن ، ولكنه صحيح المأخذ من لغتنا من مادة الثاء والقاف والفاء، ويتدنى بجلال الثقافة والمثقف من يظن أن الثقافة تعني العرف القديم لكلمة (أدب) الذي هو الأخذ من كل فن بطرف على نحو كتب المسامرات كالمستطرف!!.. والواقع أنها أسمى من ذلك؛ لأنه يلحظ فيها المعاني اللغوية من الحذق ، والمهارة، والجودة، والتهذيب، والتقويم، والتعليم، والتربية، والفطنة، والظفر والإدراك, قال الراغب الاصفهاني عن بعض المعاني اللغوية: الثَّقَفَ الحذق في إدراك الشيء وفعله، منه قيل: رجل ثَقِفٍ, أي حاذق في إدراك الشيىء وفعله، ومنه استعير المثاقفة (أي الملاعبة بالسلاح) ورمح مثقف, أي مقوَّم، ويقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك، لحذقٍ في النظر، ثم يتجوز به، فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة..[قال أبوعبدالرحمن: ليس هذا بصحيح؛ بل فيه إحكام قبضة، ولهذا ورد في سياق الآيات الكريمات القتل بدل المقاتلة والتشريد والأخذ، وهكذا لا يكون إلا عن إدراك ظفر وإحكام] قال الله سبحانه وتعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) [سورة البقرة/ 191]، وقال عز وجل (فإما تثقفنهم في الحرب) [سورة الأنفال/ 57]، وقال عز وجل: (ملعونين أينما ثقفوا) [سورة الأحزاب/ 61].. انظر (مفردات ألفاظ القرآن) ص 173.
قال أبوعبدالرحمن: ثم تأملت الاصطلاح الحادث للثقافة، فوجدته يحددها ذاتا؛ وهي ما ذكرته من حذق وفطنة.. إلخ، وينوِّعها حسب موضوعها, وأعني بالموضوع ما يتعلق به تثقف الفرد من المعارف والمهارات، ولقد أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة الثقافة بمعنى المعارف والعلوم والفنون التي يطلب الحذق فيها.. [انظر المعجم الوسيط ص 98]، وجاء أيضاً تعريف الثقافة على هذا النسق:
1 - رياضة الملكات البشرية بحيث تصبح أتم نشاطاً واستعداداً للإنجاز.
2 - ترقية العقل والأخلاق، وتنمية الذوق السليم في الأدب والفنون الجميلة.
3 - إحدى مراحل التقدم في حضارة ما.
4 - السمات المميزة لإحدى مراحل التقدم في حضارة من الحضارات.. [معجم المصطلحات الغربية في اللغة والأدب لمجدي وهبة، وكامل المهندس ص 129].
قال أبوعبدالرحمن: ويأتي التعريج إن شاء الله على الثقافتين (الأدبية، والعلمية).. وقال (وبستر) في قاموسه: الثقافة نموذج كلي لسلوك الإنسان ونتاجاته المتجسدة في الكلمات والأفعال، وما تصنعه يداه، وقدراته على التعلم ونقل المعرفة إلى الأجيال التالية).. انظر مجلة الفيصل عدد 269 ص 16.
قال أبوعبدالرحمن: وقبل التحقيق في مصطلح الثقافة أحب أن أستعرض ردود الفعل حول العولمة لكل ما سمي ثقافة، فمن تلك الردود ما نحا إليه بحث الأستاذ محمود طه شيخة، وما فيه من نقل عن الآخرين من الفصل بين الثقافة والعلم والسياسة والاقتصاد، وملخص ما عنده كالتالي:
1 - إن العلم لا وطن له؛ فما يستحدثه من نظريات في أمة من الأمم لا يضير أن تفيد منه بقية الأمم، ومن السهل أن تقبل العولمة (الهيمنة) في العلوم والسياسة والاقتصاد، أما الثقافة فلا، لأنها مختلفة بين أمم التاريخ المشترك، وعلى هذا فستكون شقة لخلاف أوسع في مثل الثقافات العربية والأوروبية؛ لأن تاريخهما غير مشترك.
2 - إن الدول القومية تفقد نفوذها وتأثيرها في عالم السياسة.
3 - إن هذا الفقدان تسببه بصورة مباشرة أو غير مباشرة قوى السوق الكونية.
4 - تأثيرات العولمة كونية الطابع غير محصورة في العالم المتقدم أو العالم النامي.
5 - إن العلم الاجتماعي التقليدي لا يمكنه تفسير هذه التغييرات، وهذه الأربعة الأخيرة من كلام (دانيال ديزنر).. انظر المصدر السابق ص 18.
6 - إن العولمة نفي للآخر، وليست أخذاً وعطاءً، وهذا ما أبداه الدكتور محمد عابد الجابري؛ إذ رأى أن العولمة اختراق ثقافي يحل محل الصراع الأيديولوجي.. انظر المصدر السابق ص 20.
7 - إن العولمة صيغة جديدة للأممية التي عاشت ردحاً من الزمن باسم الماركسية.
8- إن العولمة ليست نظاماً تثبت فيه العلاقات الوظيفية بين وحداته، ولكنه نظام قابل دائماً للتغير؛ لأنه نظام دائم الحركة.. قال أبو عبدالرحمن: هذان الأمران الأخيران عن مجلة المعرفة السعودية العدد 46 ص 41.
قال أبوعبدالرحمن: هذه أوشاب من الحق والباطل في مفهوم الثقافة ونتائج العولمة الثقافية ومعادلاتها تحتاج إلى وقفات وتتمات؛ فإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/
محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل -عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-