م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1- القرن الثامن عشر كان قرناً مشهوداً وفاصلاً في تاريخ الإنسانية حيث تحققت فيه قفزات معرفية هائلة.. وحصلت فيه انقلابات وثورات عقلية عميقة أثرت على حراك المجتمعات الإنسانية قاطبة وليس الأوروبية فقط.. احتلت فيه الرياضيات صدارة العلوم والتي عدها العلماء مفخرة العقل الإنساني ومَحَكَّه الأساس.. حيث ساهمت في تفجر عصر العلوم والهندسة والفيزياء والصناعة والفلسفة والأفكار والنظريات في علوم الطبيعة، ومكنت الإنسان من معرفة النظام الحقيقي للكون.. كل هذا قفز ببقية العلوم الأخرى شكلاً ومضموناً وأتاح للباحثين تحقيق إنجازات بحثية غيرت من شكل العالم كله.
2- القرن الثامن عشر لم يؤثر على شكل العالم من ناحية العلوم والصناعات فقط بل أثر في ذائقة الناس في الفنون والآداب، كما أثر على أخلاقهم وسلوكياتهم ومفاهيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وأساليب التعامل فيما بينهم.. وسُنَّت خلاله أنظمة العمل والتجارة وقوانين العلاقة والسياسات بين الأفراد والمنظمات والدول، وظهرت الحقوق المدنية وأفكار المساواة والحرية والديموقراطية.. وتم تحطيم كل الحواجز التي تعيق البحث ونقد كل شيء.. ولم يعد هناك في الفكر أو الأنظمة أو التشريعات أو الأشخاص شيء مقدس يُمْنع الاقتراب منه.
3- القرن الثامن عشر كان قرن التحول العظيم، قرن انتقال الإنسان من البدائية إلى الانطلاقة الكبرى في فضاء بلا حدود.. قرن انكشاف الغُمَّة والحُجُب والقمع الكنسي وقهر الجهل وسيادة الخرافات والأساطير.. قرن النظر إلى الأمام.. قرن التنافسية على مستوى الفرد والمؤسسات والحكومات.. قرن تزايد عجلة السرعة في التطور والنمو.. قرن الحروب والتوسعات والاستعمار والاستعباد للمجتمعات والشعوب الأقل تقدماً.. قرن الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وقيام الولايات المتحدة الأمريكية.. إنه قرن الفتوحات العلمية والمعرفية والفكرية العظيمة التي لم تؤثر على المجتمع الأوروبي وحده بل البشرية جمعاء.
4- إنجازات القرن الثامن عشر لم تقتصر فقط على الاكتشافات الخارجية بل تجاوزتها إلى اكتشاف الذات ودواخل النفس البشرية وتحليل الشعور.. في هذا القرن استطاع الإنسان أن يكتشف نفسه ويتعرف على دواخله وعقله الباطن.. وانتقل من مصارعة الطبيعة إلى محاولة تسييرها وتوجيهها والسيطرة عليها.. وتوسعت الأبحاث والدراسات ولم تكتفِ فقط بالتركيز على المظهر الخارجي للأشياء بل غاصت إلى العمق الداخلي لها.. وشملت الدراسات والأبحاث حراك المجتمعات وتوجيهها والتأثير عليها وأصبح للرأي العام وزن يُعْتد به.. لقد كان القرن الثامن عشر هو قرن التقدم العقلي.
5- إنسان القرن الثامن عشر كان جاهزاً ومستعداً لاستقبال وفهم الفكر التنويري والتفاعل معه، فهو قرن العقل بامتياز والتنوير يدعو إلى سيادة العقل على كل شيء.. حيث تفجرت فيه المعارف والاكتشافات والابتكارات الإنسانية.. واقترن التجريب بالتفكير، وقُلِّصت الفجوة بين التفكير المحض والواقع المجرد.. وبرز منهج البحث العلمي وإثبات أن قوة العقل لا تكمن في كونه يملك الحقيقة، بل في كونه قادراً على الوصول إليها.. وهذا قاوم التعاليم اللاهوتية التي تنهى عن «شهوة المعرفة» كما أسماها (مونتسكيو) والتي اعتبرتها الكنيسة نوعاً من الغطرسة العقلية.
6- القرن الثامن عشر هو قرن استكمال تحول الإنسان من كائن فطري إلى كائن متسائل.