محمد سليمان العنقري
بالكاد تجاوز الاقتصاد العالمي أغلب تداعيات جائحة كورونا بعد أن بلغت تكلفتها حوالي ثلاثين تريليون دولار ما بين الخسائر الاقتصادية وخطط التحفيز إلا أن ما يواجهه العالم اليوم أشد خطورة من الجائحة، إذ يتمثَّل بمخاطر اندلاع حرب عالمية وقد تكون نووية وبقدر ما يبدو الاحتمال بعيداً لأنه غير منطقي ولا عقلاني إلا أن التطورات على الساحة الدولية منذ أن بدأت حرب روسيا على أوكرانيا قبل ستة شهور وهي بتصعيد مستمر ثم جاءت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايوان والتي اعتبرتها الصين القطب الصاعد بقوة عالمياً زيارة استفزازية تنتهك سيادة الصين ومبدأ الدولة الواحدة، إذ لم يستطع أي سياسي أميريكي أو غربي أن يفهم سبب الإصرار على هذه الزيارة رغم عواقبها السلبية التي كانت مقروءة مسبقاً وقد قال وزير خارجية أميركا الأسبق كيسنجر في آخر تعليقاته أن العالم يواجه اختلال توازن خطير وأن بلاده أميركا على حافة حرب مع روسيا والصين ولا يوجد حلول إلا بتأخير تسارع الأحداث والبحث عن خيارات بديلة.
فرغم أن عالم اليوم يتشكل من جديد لينتج أقطاب متعددة أهمها الصين إلا أن أميركا والغرب عموماً يعملون على منع ذلك ليبقوا القوة الوحيدة بالعالم والمتحكمة بالنظام الدولي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً إلا أن ذلك أصبح أمراً صعباً بالنظر للتحولات الاقتصادية الكبرى بالعالم خصوصاً بالاقتصادات الناشئة لكن عند النظر لواقع الاقتصاد العالمي اليوم فإنه يرزح تحت ضغط هذه الملفات السياسية الشائكة جداً فالتضخم الذي ضرب العالم لعبت الحرب الروسية على أوكرانيا دوراً كبيراً فيه من خلال ارتفاع أسعار الطاقة الغاز تحديداً بالإضافة للسلع الغذائية وكذلك المعادن فالغرب لم يستمع جيداً لمخاوف روسيا الأمنية في ما يخص وجود حلف الناتو على حدودها واتجه للتصعيد مع روسيا حتى دخلت هذه الحرب ثم تم فرض عقوبات واسعة لأجل عزل موسكو عن العالم لكن الضرر الذي طال روسيا قد يكون الغرب ناله أكثر منه والذي لا يبدو أن لديه حلولاً واقعية لهذه الأزمة وهو ما بات أمراً يهدِّد اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي وحتى أميركا بالدخول بركود تضخمي لا يعرف متى سينتهي وكم ستكون التكلفة إذا لم يبادروا لإيجاد أرضية مشتركة للحوار وإيقاف الحرب وتحقيق مصالح جميع الأطراف.
أما الملف الثاني والذي يشهد تصعيداً خطيراً هو تايوان فمن الغريب أن تكون أميركا تعاني من تضخم لم تشهده منذ أربعة عقود وانكماش باقتصادها لفصلين متتالين وهو ما يسمى بالركود التقني مستندين إلى أنه غير حقيقي بما أن سوق العمل ما زال قوياً ونسبة البطالة منخفضة جداً عند 3.6 بالمائة وهناك نقص بالعمالة قياساً بالوظائف المطروحة بالسوق إضافة إلى أن الإنفاق الاستهلاكي ما زال جيداً لكن هذه العوامل قابلة للتغير مع استمرار ارتفاع التكاليف ورفع أسعار الفائدة مما يعني صعوبة تحقيق معدلات نمو جيدة واحتمال أن تنقلب الصورة لارتفاع بالبطالة وخروج شركات ومنشآت عديدة من السوق ومع ذلك نجد أن أميركا تصعد مع الصين بملف تايوان، بل إن وفداً من الكونجرس يزور تايبيه دعماً لزيارة بيلوسي أي أن الاستفزاز للصين مستمر فهل يسعون لإدخال الصين في حرب يستنزفوها هي أيضاً؟ فرغم كل جهود الحكومة الأمريكية لإنقاذ اقتصادهم من الدخول بركود تضخمي عميق ومعالجة ملف التضخم بخفضه سريعاً وكذلك بقاء سوق العمل قوياً وعدم انهيار البورصات لديهم إلا أن تحركاتهم ضد الصين وطريقة تعاملهم مع حرب روسيا وأوكرانيا لا تبدو أنها تخدم توجهاتهم الداخلية قبل الانتخابات النصفية للكونجرس بعد ثلاثة شهور فلا يمكن أن تنجح أي جهود لتحسين الأحوال الاقتصادية إلا عبر نزع فتيل هذه الأزمات لأنها هي التي تمثّل القلق الأكبر للاقتصاد العالمي.
سيعول العالم على اجتماع مجموعة العشرين القادم في إندونيسيا لطرح حلول للملفات السياسية ذات التأثير الاقتصادي إذا أمكن ذلك حتى لو عبر اللقاءات الثنائية كونها تجمع اقتصادي لكن انعكاس التصعيد السياسي على الاقتصاد قد يساهم بتوسيع أجندة القمة، فلا يوجد لدى الغرب أي خطط واضحة لحل هذه الأزمات التي ساهموا بافتعالها جزئياً حسب وصف كيسنجر، والواضح أن السياسة المتبعة من القوى الكبرى تلعب دوراً سلبياً ضاغطاً على الاقتصاد العالمي ويبقى الخوف الأكبر من أن تنفجر فقاعة الديون العالمية مع استمرار هذه الأزمات، حيث تتجاوز 300 تريليون دولار وإذا كانت سيرلانكا قد تعثرت عن سداد ديونها فإنها لن تكون الأخيرة في ظل التصعيد الدولي سياسياً مما قد يولد كارثة مالية جديدة بالعالم يصعب حلها فالذخيرة الدولية شبه نفذت ولا يمكن تقديم المزيد من حزم التحفيز ولا حتى ضخ ما يكفي لإنقاذ النظام المالي العالمي إذا ازداد تعثر الدول الفقيرة والنامية وكذلك قطاعات الأعمال.