مشعل الحارثي
كم تملكتني الدهشة وأنا أدلف داخل أحد الأسواق الضخمة والحديثة بعروس البحر الأحمر جدة عندما وقعت عيني على ذلك الإعلان في أحد المداخل ومثّل لي مفاجأة لم تكن تخطر على بال، حيث يقبع في أحد أدوار هذا السوق أحدث متحف سمي بـ(متحف دار الفنون الإسلامية)، فقادني الفضول الشخصي ثم الصحفي لأكتشف حقيقة هذا الإعلان وما يختبئ خلفه، وزادت دهشتي وإعجابي أكثر وأكثر عندما اطلعت على مكونات ومحتويات هذا المتحف الزاخر بكل مفرداته ومقتنياته الثمينة والنادرة، ووقفت شارد الذهن متأملاً وأنا أعيش تلك الأجواء التاريخية العبقة التي عادت بي لعشرات القرون من الحضارة الإسلامية الخالدة فتوارد لخاطري ذلك البيت من الشعر الذي يقول فيه الشاعر:
ولو كان حسناً واحداً لوصفته
ولكنه حسن وثان وثالث
فطبقت هذا البيت على ما رأيته أمام عيني فتمثَّل لي الحسن الأول في جوهر الفكرة نفسها وكونها فكرة جديدة وغير مسبوقة في أسواق المملكة، وفي أن تجتمع متعة التسوّق مع متعة المعرفة والتثقيف في زمان ومكان واحد.
وأما الحسن الثاني ففي ما يحتويه المتحف بإطلالته الجميلة والمنسقة وعرض المقتنيات بأسلوب مشوّق، وما يتوشح به من طابع وسمات العمارة الإسلامية، وإشعار الزائر بالحس الجمالي والذوق الفني الرفيع، وما يضمه بين أروقته من أكثر من ألف قطعة فنية تمثِّل تاريخ الفن الإسلامي خلال (15) قرناً من الزمان موزعة على قاعاته الست الرئيسية بداء من قاعة الخزف والزجاجيات، إلى قاعة صناعة المعادن، وقاعة القطع النقدية التي تحكي عبر (500) قطعة نقدية تاريخ سك النقود، وقاعة لقاء الحضارات، والخط والمخطوطات، والمصاحف القرآنية النادرة المخطوطة بماء الذهب والتي تعود للقرن الثاني من الهجرة، وانتهاءً بقاعة المنسوجات الإسلامية والأقمشة التي استخدمت في كسوة الكعبة المشرَّفة في الجناح الخاص بالحرمين الشريفين وما يتبعها من قاعة خارجية كبرى تضم مئات الصور النادرة الفتوغرافية والمضاءة تحكي قصة تطور بناء الحرمين الشريفين وكل ما كتبه وأرَّخه الرحالة الأجانب من كتب وأثبتوه من صور ورسوم تقريبية للحرمين منذ مئات السنين.
وأما الحسن الثالث والأهم فهو التفاعل الإيجابي وسرعة المبادرة والاهتمام من مداد الخيرية للتراث والثقافة والفنون إحدى مؤسسات رجل الأعمال الشيخ صالح صيرفي وصرف عشرات الملايين من الريالات للترجمة الفعلية لرؤية المملكة 2030 التي تسعى ضمن أهدافها إلى رفع عدد المتاحف في مناطق السعودية كما جاء في نص الرؤية: (إننا نفخر بإرثنا الثقافي والتاريخي السعودي والعربي والإسلامي، وندرك أهمية المحافظة عليه لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ القيم العربية والإسلامية الأصيلة، إن أرضنا عرفت على مر التاريخ بحضارتها العريقة وطرقها التجارية التي ربطت حضارات العالم بعضها ببعض، ما أكسبها تنوّعاً وعمقاً ثقافياً فريداً، لذلك سنحافظ على هويتنا الوطنية ونبرزها ونعرف بها، وننقلها إلى أجيالنا القادمة، وذلك من خلال غرس المبادئ والقيم الوطنية، والعناية بالتنشئة الاجتماعية واللغة العربية، وإقامة المتاحف والفعاليات وتنظيم الأنشطة المعزّزة لهذا الجانب.
وعندما كنت أتجول بين قاعات المتحف سرّني تلك الكوكبة من شباب وشابات الوطن وهم يقومون باستقبال الزائرين وتقديم الشروحات والمعلومات التاريخية لهم، وفي الجناح الخاص للشيخ صالح صيرفي الذي يوضح رحلة الكفاح وبداياته في مجال الأعمال المصرفية بجدة قبل نحو (70) عاماً كان من محاسن الصدف أن التقي بالمهندس أنس صيرفي المشرف المباشر على تنفيذ مشروع المتحف، فأوضح لي بأن العمل بهذا المشروع انطلق مع إعلان رؤية المملكة 2030 بهدف تحقيق جانب من جوانب الرؤية وقد استغرق العمل به نحو خمس سنوات وهو لم يكتمل بعد وهناك قاعات ما زالت تحت التجهيز والإنشاء منها ما هو مخصص لتاريخ مدينة جدة وبعض القاعات الأخرى، وأن ما تم جمعه من مكونات المتحف تم عن طريق الشراء من بعض الشخصيات المحلية المقتنية للتحف والآثار القديمة والبعض الآخر عن طريق الشراء من المزادات العالمية من خارج المملكة.
وختاماً فمن حق هؤلاء الرجال علينا أن نقول لهم شكراً بكل ما تحمله معاني الشكر والتقدير والثناء على هذا العطاء والبذل السخي، فتحية للشيخ محمد صالح صيرفي الذي يقف بكل قوة وراء هذا المشروع وغيره من المشاريع الخيرية الأخرى التي تخدم المجتمع في مختلف المجالات التعليمية والصحية والبيئية والثقافية، والذي وضع له بصمة مشرقة على صعيد الخدمة الوطنية، والتحية موصولة لابنه المهندس النشط أنس صيرفي، وتحية لكل رجل أعمال في بلادنا احتذى حذوهم وقدم واجبه الحقيقي في بناء الوطن وسارع في ترجمة الخطط والبرامج التنموية للبلاد، وكان له خطوات رائدة في ذلك مجسداً معنى الشراكة الحقيقية كإحدى بوابات العبور للمستقبل وتحقيق الآمال والأمنيات التي يتطلع إليها الجميع.