د.سالم الكتبي
على هامش منتدى سان بطرسبرج الاقتصادي في يونيو الماضي، قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان إن العلاقات بين المملكة وروسيا دافئة مثل طقس الرياض، وهو وصف يلخص «حالة» التعاون الإستراتيجي القائمة بين البلدين في المرحلة الراهنة، وهي «الحالة» التي تثير حفيظة حلفاء الرياض الإستراتيجيين في الغرب، وفي مقدمتهم بطبيعة الحال الولايات المتحدة، ولكنها تبقى الخيار الأمثل للسياسة الخارجية السعودية في ضوء مجمل الظروف والمعطيات التي يمر بها النظام العالمي القائم.
بالتأكيد كان الجميع - إقليميًّا ودوليًّا - يترقب نتائج وتأثير الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية الشهر الماضي، وبمعنى أدق وأكثر تفصيلًا كانت هناك توقعات أو تطلعات غير محسوبة أن السعودية يمكن أن ترضي الشريك الأمريكي بزيادة إنتاج النفط بمعزل عن شركاء «أوبك+» رغم أن الرياض أكدت مرارًا أن هذه المسألة لا تخضع للتفاوض، ثم جاء الاتصال الهاتفي الذي جرى مؤخرًا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ليؤكد محدودية هذا التأثير إن لم يكن انعدامه.
بلا شك أن الرؤية الإستراتيجية للدول المنتجة للنفط سواء داخل «أوبك» أو خارجها، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وروسيا، قائمة على نظرة موضوعية للأسواق، وضرورة الحفاظ على استقرارها وتوازنها وهذا أمر حيوي لمصلحة المصدرين والمستهلكين على حد سواء، ولكن ما يحدث في الواقع أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأطلسيين، الذين يتعرضون لضغوط اقتصادية داخلية ضخمة، جراء سياسات لا علاقة للآخرين بها، يريدون ارتهان سياسات إنتاجي النفط لهذه السياسات، واستغلال هذا الإنتاج في عزل روسيا ومعاقبتها، وهي أمور لا شأن للآخرين بها بل إنها تعرض مصالح دولهم وشعوبهم لخسائر إستراتيجية كبيرة.
الاتصال الأخير لم يكن فقط بمنزلة تأكيد على قوة العلاقات السعودية - الروسية، بل أكد كذلك عمق الالتزام الذي تتسم به السياسات السعودية النفطية للحفاظ على توازن أسواق الطاقة، وهو أمر يليق بمكانة المملكة وثقلها الإستراتيجي العالمي المتزايد.
أعتقد أن معضلة السياسة الخارجية الأمريكية في هذه النقطة تحديدًا تكمن أن صانع القرار الأمريكي، على المستويين التنفيذي والتشريعي، لا يريد استيعاب الحقائق والمتغيرات التي طرأت سواء على وضع الولايات المتحدة ومكانتها العالمية، أو على وضع ومكانة حلفائها التقليديين، ولا يرى سوى المعادلات القديمة التي تأسست عليها علاقات التحالف، ولا يعترف أن مياهًا كثيرة قد جرت في قناة هذا التحالف، وأن أمورًا كثيرةً تغيرت وينبغي التعامل معها بواقعية بدلًا من مواصلة العمل وفق نظرة ورؤية قديمة لم تعد تتماشى مع الواقع في العلاقات الدولية.
ثمة معضلة أمريكية أخرى في هذا الشأن تتعلق بالسلوك الأحادي للولايات المتحدة، وهو سلوك يتسم بالأنانية المفرطة ويدفع الكثير من حلفائها لإعادة النظر في هذا التحالف أو على الأقل إعادة بنائه وفق أسس جديدة تأخذ بالاعتبار المتغيرات الإستراتيجية الجديدة، فواشنطن أثبتت ميلها للتخلي عن حلفائها في أي أزمة، بل - وهذا هو الأخطر - ميلها للزج ببعض الحلفاء في أتون أزمات مصيرية وربما وجودية، من دون مراعاة سوى لمصالح واشنطن وحساباتها الصراعية المحتدمة مع خصومها ومنافسيها الإستراتيجيين.
المغزى مما سبق ليس تبرير التوجهات الجديد لحلفاء واشنطن الخليجيين، ولكن محاولة فهم السياق العام للأحداث، باعتبار أن هذه التوجهات تتأثر بما يدور حولها عالميًّا، فضلًا عن كونها تراعي المصالح الإستراتيجية المتنامية لهؤلاء الحلفاء، وهي مصالح باتت تتطلب بناء شبكة عالمية واسعة من علاقات التعاون مع كافة القوى الدولية الصاعدة، بحكم تقاطع المصالح والمشتركات مع الجميع. وأحد أهم هذه المشتركات يكمن في التنسيق القائم بين السعودية وروسيا للحفاظ على استقرار أسواق النفط وتوازنها، ومراعاة مصالح المنتجين والمستهلكين على حد سواء.
بالتأكيد، تدرك الولايات المتحدة أهمية الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة مع الجميع، وهي تحرص على ذلك سواء في علاقاتها مع الصين أو روسيا رغم كل التوترات والظروف المعقدة التي تمر بها العلاقات، ولكن حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية لدول أخرى، فإن واشنطن ترى أن على هذا الحليف التخلي عن أي شراكات أخرى تتعارض مع ما يراه الجانب الأمريكي، وهذا ما أسميته سالفًا بالتوجهات السلوكية التي تتسم بالأنانية المفرطة، والتي تمثل التهديد الأخطر لاستمرارية علاقات التحالف التاريخية التي تربط الولايات المتحدة بحلفائها من دول مجلس التعاون، وحتى إسرائيل نفسها، الحليف الإستراتيجي الأقرب والأثير لواشنطن في الشرق الأوسط، لم يسلم من هذه الممارسات، حيث نلحظ الخلافات التي تطرأ بين الفينة والأخرى بسبب التطور المتسارع للعلاقات الإسرائيلية - الصينية.
السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق الأمريكي بالأساس، ليس في العمل المتواصل والتركيز على محاولة تفكيك العلاقات السعودية - الروسية، أو الروسية - الخليجية أو الحد من تطورها، لأن هذا سيناريو خيالي تصوري بعيد المنال على الأقل في ضوء المعطيات والظروف الراهنة، ولكن في تطوير المفاهيم الإستراتيجية الأمريكية للعلاقات الدولية، وبناء تصورات جديدة حول علاقات الشراكة والتحالف مع الدول الأخرى، بما يستوعب متغيرات العصر وظروفه، وكذلك ظروف الولايات المتحدة ومصالحها واحتياجاتها الفعلية بعيدًا عن المبالغة والتهويل والتهوين سواء في قدراتها أو قدرات الآخرين على التحرك والمناورة سياسيًّا وإستراتيجيًّا.
ببساطة شديدة، ينبغي على الولايات المتحدة أن تدرك أن القواعد الحاكمة للعلاقات الدولية في منتصف القرن العشرين قد تغيرت، وأن الإبقاء على علاقات التحالف والشراكة يتطلب مراعاة لمصالح الطرفين، واحترام وتقدير متبادل ومرونة شديدة وواقعية أشد في النظر للأمور واستيعاب المتغيرات وإثبات مستوى قوي من الاعتمادية بين الشركاء الإستراتيجيين.
العلاقات السعودية - الروسية تتطور، وتثبت يومًا بعد آخر امتلاكها لمقومات القوة والاستمرارية، وهذا لا ينفي أهمية العلاقات السعودية - الأمريكية، ولكن على واشنطن أن تستوعب جديًّا المتغيرات الجيوسياسية الراهنة، وتدرك أن الخليج ليس نفطًا فقط، بل شبكة واسعة من المصالح الإستراتيجية المتبادلة.