حسن اليمني
تغيَّرت عملية الحراك في بلادنا وعلينا أن نلحظ ذلك وننسجم معه، كانت تعاملاتنا فيما بيننا كأفراد وحتى مع الأجهزة الحكومية تأخذ طابع التغاضي والتجاوز الودي والتسهيل والتيسير والاتكاء على حسن النوايا، أما اليوم فنحن نتجه لأن يسير كل شيء حسب قواعده ونظامه، والأمر كذلك، صار لزاماً علينا أن ننتقل أيضاً بفهمنا وفكرنا في سلوكنا وتعاملاتنا حسب تلك القواعد والنظم.
التغيّر الذي حدث في مجتمعنا دليل حيوية في الحراك والتنظيم وخطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح، لكن ضعف أو ضيق استيعاب أدوات وسائل الإعلام والتوعية لما يجري نتيجة غياب الفكر المتعمق في الأشياء في ما يطرح ويتداول في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة أبقى حركة التغيّر مبهمة وغير واضحة، ذلك أن كل تغير له أبعاده ومؤثراته على حركة التعاملات البينية سواء بين الفرد والآخر أو بين الفرد والمؤسسة والعكس (وأقصد بالمؤسسة أي جهة حكومية أو خاصة) فقد أصبح هناك ضرائب ورسوم وجزاءات مالية عن الخطأ والتجاوز وأجور مالية للوقت والجهد والحقوق الاعتبارية والحريات المكفولة، بتنا نرى وبشكل يومي تقريباً ظهور نظم وترتيب وتحديد أثمان المعاملات والتعامل وحتى السلوك وضبطه مثل التجاوز في المراعي والاحتطاب وحتى إشعال الضوء في النزهات أو التجاوز السلوكي حتى بالكلمة أو النظرة المؤذية معنوياً أو خادشة لقيمة الاعتبار.
تقنين وضبط مسؤولية السلوك وحقوقه وعواقبه الجزائية بين الأفراد والأفراد وبين الأفراد وحتى الطبيعة ينبسط أيضاً بين الأفراد والجهات الاعتبارية والعكس كذلك، بمعنى أن كل إجراء أو سلوك ولو حتى بالنظرة صار معتبراً ومقيّماً بقيمته الحقوقية، عقوبات وجزاءات ومخالفات شملت أدق السلوكيات التي كان اعتبارها في ذات يوم بمثابة ترف أو مثالية في الدول المتقدمة لا تنسجم ودورة التعامل السلوكي في ما بيننا والتي كان يحكمها أجر التجاوز والتسامح أو (حبّة الخشم) وصحيح أنها ما زالت وستبقى لكن المستجد هو أنه أصبح لها جزاء مقابل ومحدد حسب درجته وسعة أو ضيق ضرره الاعتباري.
إن هذا التغيّر وإن قلنا تطور أو تقدم في ضبط السلوك والتعاملات خطوة إيجابية في سبيل إعادة ترتيب وتنظيم السلوك والتعامل الاجتماعي وكون أن حراك أي مجتمع هو بمجموعه سلوك وتعامل، وحيث تم تبويب كل سلوك أو فعل بجزاء مقابل ضرره سواء كما ذكرت سابقاً بين أفراد وأفراد أو أفراد وطبيعة أو أفراد ومؤسسات أو العكس، إذن طالما نحن بين حق وجزاء فلا بد من وسيط، وإذا كان الوسيط هو التقاضي في المحاكم المختصة فإن الحاجة للاستعانة بالمختصين في هذه الحقوق ومداولاتها أصبح غاية في الأهمية.
إننا بهذه النقلة النوعية صرنا في حاجة ماسّة لمكاتب المحاماة، بل إن وجودها أصبح ضرورة في كل تعامل وسلوك، لكن هذه تبقى خطوة تحتاج إلى إعادة نظر وضبط جودتها، كذلك توفير درجات محاكم تقاضي، نتابع جهود وزارة العدل في ترقية وتطوير خدماتها بشكل يبعث الارتياح لكن المحاكم التابعة لذات الجهة المتقدم ضدها مثل ما هو معمول في جهاز المرور لا يبدو محققاً للغاية بالشكل الذي نطمح له، كما أن واقع مكاتب المحاماة لدينا لا يزال يمثِّل حجر عثرة في النجاح باعتباره الوسيط بين الواقعة والتقاضي لكنه لا يزال بعيداً في حيّزه الضيّق بطيء الحركة.
إنه ليس مطلوباً من الفرد أن يلم بكل تفاصيل الحقوق والجزاءات ومسالك التقاضي وتحصيل الحقوق، وفي ذات الوقت حين يصبح لكل فعل أو سلوك أو تعامل حقوق وجزاءات تصبح الحاجة لوجود المختص ضرورة ملحة، وفي التعامل بين الفرد ومكتب المحاماة من يحمي الفرد من مكتب المحاماة؟ مكتب محاماة آخر ثم مكتب آخر وهكذا يبقى الفرد في دوامة بين أنياب حادة لا قدرة له على مواجهتها، سأقترح على وزارة العدل إنشاء شركة مساهمة للمحاماة لتحفيز مكاتب المحاماة الفردية على التطور ومواكبة المرحلة من جهة وحفظ حقوق الأفراد من جهة أخرى، استدعى ذلك انزواء مكاتب المحاماة على انتقاء ما يضمن منافعها دون أي التزام تجاه المتعاملين معها ما يهدر الوقت والحقوق للمتعاملين معهم من الأفراد إضافة إلى ضخامة كلفة الخدمة وأحياناً إهمال القضايا مقابل قضايا أخرى تحقق مكاسب أعلى، بل أحياناً يتم تعطيل قضية مستفيد من أجل تحقيق فائدة أكبر للمكتب على حساب وقت المستفيد وحاجته، أي نعم يمكن للمستفيد شكوى ومقاضاة المكتب لكن حل القضية بإنشاء قضية أخرى تدخل المستفيد في متاهات مكلّفة في الجهد والوقت.
إن ضبط السلوك والتعاملات في حاجة لتنسيق بين وزارة العدل والنيابة العامة لإنتاج ماكينة ضبط عادلة تحمي المغفلين والضعفاء، وليس صحيحاً أن القانون لا يحمي المغفلين، بل ما وضع القانون إلا لحماية المغفلين والضعفاء والجهلة، أما أصحاب الحيلة والدهاء فإن جل عملهم استثمار النظم والقوانين وعقول المشرّعين.