أمة بلا تراث لا يمكن أن تقارع صراع الثقافات الممتد عبر العصور، وتغيب عن محافل الثقافة صوتًا وأثرًا، وإن كنت أتحفظ على القول الشائع (اللي ما له أول ما له تالي)، إلا أنني أربط هذا القول من زاوية التراث المرتبط بهوية المجتمع، لا العناصر الأخرى التي تحتل مكانة عالية لدى الإنسان.
التراث المرتبط بالهوية يعبّر عن قيم المجتمع والفرد على حد سواء، يعزز ذلك الانتماء للجماعة والمكان والوطن، وهو ما يسمى بالتراث غير الملموس، أو التراث غير المادي، الذي أصبح محل الاهتمام على الصعيد الأكاديمي والمؤسسات ذات العلاقة بالثقافة على مستوى عالمي، بل حتى المنظمات التي تعنى وتهتم بالثقافة تأخذ هذا العنصر من الثقافة كعنصر مختلف لارتباطه المباشر بالشعوب المعاصرة.
لذلك حضارات الأمم السابقة التي تكتنزها الأرض، والمعالم البارزة من تلك الأمم، هي حضارات تعزز الحضور والمشهد الثقافي للأرض، كونها أرضًا عاشت عليها أمم سابقة ولم يكن الوجود البشري الحالي أمرًا طارئًا، وبلا شك فهذه الحضارات تحمل قيمة نوعية لا يمكن التقليل منها بأي شكل كان، ولكن التراث المرتبط بالمجتمع المعاصر هو الهوية الثقافية التي تقدمه إلى المجتمعات الأخرى، وكلما زاد الحفاظ على هذا الإرث وتقديمه على أصالته وتحديثه بما يتوافق مع معطيات المكان والزمان، بما لا يتعارض أو يؤثر على أصالته، أصبح سمة تميز المجتمعات فيما بينها، ومجتمعة هوية وطن، كما يضمن استدامته التي تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تحقيق جدوى الحياة التي يترقبها كل فرد.
إن تميز الشعوب والمجتمعات ينطلق بداية من تراثهم المرتبط بهويتهم، التي تعتبر هي مفتاح التعرف على المكان والإنسان على حد سواء، ويعكس مدى الترابط والتواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، لأن الفرد داخل الجماعة هو من صنع وأوجد هذا التراث الذي بممارسته والتعامل المستمر معه جعله هوية تعبر عن مجتمع، وهنا بطبيعة الحال لا مجال لتحوير التراث على أي عناصر تخالف القيم بأشكالها كافة.
فعلى سبيل المثال، أصبحت الفنون الأدائية تميز الشعوب على المستوى الدولي لأن تقديمها على أصولها من قبل مجتمعها جعلها محل النظر والتعريف الدولي، كذلك اللبس، وكيف أصبحت المجتمعات تعرف إلى هوية الفرد من خلال الملبس، وما يحدث من تجاوز لهذا العنصر أو إدخال بعض الزوائد التي ربما تعتبر نشازًا أضعف رمزية الهوية على المجتمع، والحديث هنا لا ينطوي إلى مجتمع محدد.
وكتوضيح أكثر، فبالنظر إلى المهاجرين في البلدان الغربية أصبحت هويتهم معروفة للجميع لتمسكهم بها خارج المكان، وأصبحت دلالة واضحة على التعريف بهم كمجتمع، سواء من الملبس أو حتى الاحتفالات والأهازيج والرقصات التي يمارسونها، وهو ما يؤكد ارتباط التراث والهوية بالإنسان لا بالمكان، خلاف التراث المادي.
** **
- مرضي بن سعد الخمعلي
@mardhisaadd