دائمًا تتعرَّضُ الشَّخصياتُ الكبيرةُ في العالمِ إلى نوعٍ من التَّشويهِ المَقصُودِ وغيرِ المَقصودِ، وذلكَ بسَردِ الحِكاياتِ عَنهَا دونَ التَّحقُّقِ مِنْ صِحَّتِها، إمَّا بغرضِ الإساءةِ لها، أو التَّساهلِ في ذكرِ الحكاياتِ والقصصِ، وعدم الإحساسِ بأثرِ ذلك على المستمعِ في المُستقبلِ، وعلى رأس هذه الشَّخصياتِ نبيُّنا محمدٌ، عليه أفضلُ الصَّلاةِ والتَّسليمِ، عندَمَا تمَّ وَضعُ الحَديثِ عليه من قِبَلِ الزَّنادقة، بغرضِ تشويهِ الدِّينِ، أو بغرضِ نفعِ الدِّينِ، كما فَعلتْهُ فِرقةُ الكَراميَّةُ، وطال التَّشويهُ صحابتَهُ الكِرَامَ، مثل معاويةَ بنِ أبي سفيانَ -رضي الله عنه -، وكما وَصفَتْ بعضُ المصادرِ الخَليفةَ العبَّاسِيَّ هارونَ الرَّشيدَ بالفسقِ والمُجونِ، وهو الخليفةُ الذي يُجاهدُ عامًا ويحجُّ عامًا.
وفِي مَوضوعِنا هذَا سنتناولُ شَخصيَّةً وعلمًا وسيِّدًا من ساداتِ العَربِ، ألا وهو الصَّحابيُّ الجليلُ، قَيسُ بن عاصمٍ المنقريُّ، سيِّدُ بني تميمٍ.
ونذكر هنا نُبذةً مختصرةً من سيرَتِهِ، فهو: قيسُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ سنانِ بْنِ خَالِد بْن منقر بْن عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، والحارثُ هُوَ مقاعسُ بْن عَمْرو بنِ كعبِ بنِ سعدِ بن زيد مناة بْن تميم المنقري التميمي. يُكَنَّى أَبَا عليٍّ. وقِيلَ: يكنى أَبَا طَلْحَةَ. وقيل: أَبُو قبيصةَ.
وكان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عاقلاً حليماً، مشهوراً بالحلم.
قيل للأحنفِ بْنِ قَيْسٍ: ممن تعلمت الحلمَ؟ قَالَ: من قَيْس بْن عَاصِمٍ المنقريِّ، رأيته يومًا قاعدًا بفناءِ دارِهِ، مُحتبيًا بحمائلِ سيفِهِ، يحدِّث قومَه، إذ أُتِيَ برجلٍ مكتوفٍ، وآخرَ مقتولٍ، فقيلَ لَهُ: هَذَا ابْن أخيك قتلَ ابنَكَ. قَالَ: فو الله مَا حلَّ حِبوتَهُ، ولا قطعَ كلامَهُ، فلما أتمَّهُ التفتَ إِلَى ابْنِ أخيهِ، فَقَالَ: يَا ابْن أخي، بئس مَا فعلتَ! أثِمْتَ بربِّكِ، وقطعت رحمكَ، وقتلت ابْنَ عمِّك، ورميت نفسَك بسهمِك، ثُمَّ قَالَ لابنٍ لَهُ آخرَ: قم يَا بنيَّ فوارِ أخاك، وحُلَّ كتافَ ابْنِ عمِّك، وسُق إِلَى أمِّك مائةَ ناقةٍ ديةَ ابنِها، فإنَّها غريبةٌ.
وقال الْحَسَنُ البصريُّ: لمَّا حضرتْ قَيْسُ بْن عَاصِمٍ الوفاةَ، دعا بنيه، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ، احفظوا عَنِّي؛ فلا أحدَ أنصحُ لكُم منِّي، إذا مِتُّ فسوِّدوا كبارَكُم، ولا تُسوِّدوا صغارَكُم؛ فيُسفِّه النَّاسُ كبارَكُمْ، وتَهونُونَ علَيهِم. وعليكم بإِصلاحِ المالِ؛ فإِنَّهُ منبهةٌ للكَريمِ، ويُستغنَى بِهِ عَنِ اللئيمِ. وإيَّاكُم ومسألةَ النَّاسِ؛ فإنَّها آخرُ كسبِ الرَّجلِ.
توفي -رضي الله عنه- عَامَ (47) هـ، قَالَ عبدةُ بنُ الطَّبيِّبِ(1):
عليكَ سلامُ اللهِ قَيْسُ بْنَ عاصمِ
ورحمتُهُ مَا شاءَ أن يُتَرحَّمَا
تحيةَ مَن أَوليتَهُ منكَ نعمةً
إذا زَارَ عَنْ شَحْط بلَادكَ سَلَّمَا
فما كَانَ قَيْسٌ هُلكُهُ هُلْكَ واحدٍ
ولكنَّهُ بنيانُ قَومٍ تهدَّمَا(2)
وبالاطِّلاعِ على كتابِ «قبائلُ بنِي تميمٍ ودورُهُم في التَّاريخِ العربيِّ قبلَ الإِسلامِ وعصرِ الرِّسالةِ» من تأليف/ واثقة بنت حازم الحيالي، والتي تضمَّنَ كتابُها التَّعريفَ بقبيلةِ بني تميم نسبِها وبطونِها، وأماكنِ انتشارِها، وعدَّةِ قضايا اجتماعيةٍ وسياسيةٍ، وعن بني تميم في عصر رسالةِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحيث أوردت المؤلفةُ نصًا في باب الغدرِ، نقلًا عن «مجمعُ الأمثالِ» للميدانيِّ، والمبردِ في كتابِه «الكَاملُ في اللُّغةِ» نصاً: «كما ذكر أن قيسَ بنَ عاصمٍ ضُرب به المثلُ بغدرِه، فقيل: أغدر من قيس بن عاصم، فقد غدر بتاجر جاوره، فربطه إلى شجرةٍ، وأخذ متاعَه، وشرِب خمرَهُ»، وأصل النص في كتاب الكامل: «ويُروى أنَّ قيسَ بنَ عاصمِ بنِ سنان بنِ خالد بنِ منقر أجار خمَّاراً، فشرب شرابَهُ، وأخذ متاعَهُ، ثم أوثقَه، فقال: افد نفسَكَ، وقال في ذلكَ(3):
وتاجر فاجر جاءَ الإلهُ بهِ
كأنَّ عُثْنُونَهُ أذنابُ أَجمالِ»(4)
ولي تعقيبٌ على هذِه القصَّةِ وعدمِ صحَّتِها فهي غيرُ صحيحةٍ؛ لعدَّةِ أمورٍ:
أولًا: يجب أن نتذكر أن العرب تأنف من الصفات الذميمة، وخاصَّةً صفةَ الغدرِ، فقد ورد في كتبِ التراثِ قَصصٌ ونماذجُ من وفاءِ العربِ بعُهودِهِم، كما حدثَ للسَّمَوأَلِ بن عاديا فيُقالُ: «أوفى منَ السَّموأَلِ»، وذلك عندما أودع امرؤُ القيس عنده دروعاً وسلاحًا، وذهب إلى قيصرَ يستنجدُ به على أعدائِه، واستغلَّ هذه الفرصةَ الحارثُ بن شمرٍ الغسانيُّ، فطلبها من السَّموأَلِ، وأصرَّ على انتزاعِها منه، ولكنَّه أبى وتحصَّن بقصرِه في تيماء، وكان ابنه خارجَ القصر، فأخذه الحارثُ الغسَّانيُّ رهينةً عنده، وأخذ يساومُه، وهدَّدهُ بقتلِ ابنِه إن لم يستجب لمطلبِه، إلا أن السَّموْأَلَ ظلَّ محافظاً على عهده، حتى وهو يرى ابنَه يذبح أمامه(5)، فكيف يُتصوَّرُ ذلك بالشَّخصيَّاتِ الَّتي تسودُ قومَها، واللَّذينَ منهم قيسُ بن عاصمٍ؟!
ثانياً: أن قيسَ بن عاصمٍ صحابيٌّ جليلٌ، لقي الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وإن مِنْ عقيدةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجماعةِ حبَّ أصحابِ رَسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
قال الإمامُ الطَّحاويُّ -رحمه الله-: ونحبُّ أصحابَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلم-، ولا نُفرِطُ في حبِّ واحدٍ منهم، ولا نتبرَّأُ من أحدٍ منهُم، ونبغضُ من يبغضُهُم وبغيرِ الخير يذكُرُهم، ولا نذكُرُهم إلا بخَيرٍ، وحبُّهُم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبُغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ(6).
وفي الصحيحَيْن من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبُّوا أصحابي؛ فلوا أنَّ أحدَكُم أنفقَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا، ما بلَغ مُدَّ أحدِهِم ولا نصِيفَه»(7).
وإن إيراد مثلِ هذه القصَّةِ والتساهلَ في نشرها يُعدُّ أمراً خطيراً على عقيدةِ الإنسانِ؛ لما فيه من ذمٍّ ومَنقصةٍ لشخصيَّةِ الصحابيِّ قيسِ بن عاصمٍ -رضي الله عنه.
قال أبو زرعةَ الرَّازي: إذا رأيتَ الرجلَ ينتقصُ أحدًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فاعلمْ أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عندَنا حقٌّ، والقرآنَ حقٌّ، وإنِّما أدَّى إلينا هذَا القرآنَ والسُّننَ أصحابُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنَّما يريدونَ أن يجرحوا شهودَنا؛ ليبطلوا الكتابَ والسُّنةَ، والجرحُ بهم أَولى، وهم زنادقةٌ(8).
ثالثًا: جرى البحث في المصادر التاريخيَّةِ والأدبيَّة عن القصَّةِ، ووجدت أن أوَّل من ذكرها، هو المبردُ في كتابه «الكاملُ في اللُّغةِ»، وجميعُ من ذكرها بعدَهُ، فالغالب أن يَنسُبَهَا لكتابه، والقصَّةُ المذكورة ليس لها إسنادٌ يثبتها.
رابعًا: كيف يضربُ المثلُ بقيسِ بن عاصمٍ في الغدرِ، وهي لم تحدثْ منه إلَّا في قصَّةٍ واحدةٍ، وهذه الصفةُ لا يُضربُ المثلُ بصاحبِها، إلا إِذَا كانت دَيدَنَهُ، ويعتبر قيس بن عاصم سيدًا من ساداتِ العربِ، وقد جاء حديثٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وحكمَ عليه الألبانيُّ بأنَّهُ حسنٌ لغيرِه: «قدم فِي وفد بني تميم على رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذلك فِي سنة تسع، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: هَذَا سيد أهل الوبر»(9).
خامساً: في ثنايا القصَّة ذُكرَ بأنه فَعلَ فعلتَهُ وهو بحالةِ سُكرٍ؛ لشربِهِ الخمرَ!! فكيفَ يحصلُ هذا منه، وقد ورد في الآثار شعرُهُ في ذمِّ الخمرِ؟! يقول(10):
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها
خصالٌ تفسدُ الرَّجلَ الحليما
فلا واللهِ أشربُها صحِيحًا
ولا أشفي بها أبدا سقيما
ولا أعطي بها ثمنًا حياتي
ولا أدعو لَهَا أبدًا ندِيما
فإنَّ الخمرَ تفضحُ شاربيها
وتُجنيهِم بها الأمرَ العَظيما(11)
سادساً: ورد في الرواياتِ التي ذكرت أن قيساً يُضربُ به المثلُ في الغدرِ -كما جاء في كتاب المستقصى من أمثال العرب للزمخشري(12)- أنه ارتدَّ وصارَ مؤذِّنًا لسَجَاحِ بنت عقفان المتنبيَّةِ.
وقد جاءت إفادةُ الدكتورِ الفريح حولَ الموضوعِ في صحيفةِ الجزيرةِ السعوديَّةِ(13)، أنَّ بني تميمٍ لم يرتدُّوا فيمن ارتدَّ من القبائلِ بعدَ وفاةِ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم-، وأَنَّ ما ذُكر عن ردَّةِ بني تميمٍ ليس له أساسٌ من الصِّحَّةِ؛ وذلك لعدَّة أمورٍ:
أن الطبري قال: (ذِكْرُ خبرِ بني تميم)، فلو كانت تميمٌ ارتدَّت، لذكر ذلك وقال: ردة بني تميم.
وأنَّ كثيرًا من بني تميم اشتركوا في الجهاد في عهد أبي بكر، وأبو بكرٍ كان يمنعُ المرتدِّينَ من الجهادِ، حتى ظهرت توبتهم في عهدِ عمرَ، فعفا عنهم، وذكر ابن إسحاق -ونقله البيهقي- أن أوَّلَ صدقةٍ وردتْ إلى المدينةِ بعدَ وفاةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي صدقةُ الزّبرِقَانِ بن بدرِ بنِ خلف، ممَّا يدل على ثباتِهم، والزبرقانُ من ساداتِ تميمٍ.
وأنَّ قيس بن عاصم -وهو من ساداتِ تميمٍ وكبارِهِم- كان يقاتلُ المرتدِّينَ مع العلاءِ بن الحضرميِّ في البحرين، وإن ورد في بعض المصادر عكسُ ذلك، ولكنَّها بصيغةِ العمومِ، ولم تنصَّ على ردَّةِ قيسِ بن عاصمٍ -رضي الله عنه- بالذَّاتِ.
وختاماً: رجلٌ بهذه الصفات الحميدة، وسيدٌ لقومِهِ، وفي عدادِ الصحابة، كيفَ نصدِّقُ أو نتساهلُ في نشرِ مثلِ هذهِ الأخبارِ عنهُ؟!
الهوامش
(1) الأبيات من بحر الطويل.
(2) «الاستيعاب في معرفة الأصحاب».
(3) البيت من بحر البسيط.
(4) قال ذلك؛ لأن ذنب البعيرِ يضرِب إلى الصّهبةِ، وفيهِ استواءٌ، وهو يشبِهُ اللِّحيَةَ. «الكامل في اللغة» (2-134).
(5) «آثار البلاد وأخبار العباد» للقزويني (74).
(6) «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي (2-689).
(7) البخاري برقم (3673)، ومسلم برقم (2541).
(8) «الكفاية في علم الرواية» (ص 49)، وانظر: «الإصابة» لابن حجر (1-11).
(9) أخرجه الحاكم في مستدركه برقم (6564).
(10) الأبيات من بحر الوافر.
(11) «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» لابن عبد البر (3-1295).
(12) (1-59).
(13) السبت 20 شوال 1427 هـ 11 نوفمبر2006 م العدد 12462 بتصرّف.
** **
- د. نايف بن ناصر المنصور