محمد سليمان العنقري
لم تمضِ أيام قليلة جداً على مغادرة وزير الخارجية الروسي لافروف لآخر دولة دولة إفريقية زارها ضمن جولة شملت عدة دول حتى وصل وزير الخارجية الأمريكي بلينكن للقارة السمراء وذلك في محاولة لإبعاد الدول الإفريقية عن روسيا التي وثّقت علاقتها ببعض الدول مثل مالي وكذلك للحد من العلاقة مع الصين التي وطدت علاقاتها مع أغلب دول إفريقيا اقتصادياً وتجارياً وقامت بتقديم قروض بعشرات المليارات من الدولارات لتمويل البنى التحتية من مطارات وطرق وغيرها بالإضافة لتواجد حوالي عشرة آلاف شركة صينية في أغلب دول القارة التي أصبحت مسرح تنافس دولي كبيراً فقد زارهم ايضاً الرئيس الفرنسي ماكرون قبل أسابيع في محاولات لإحياء علاقات بإطار أكثر قوة نظراً لأهمية إفريقبا من حيث ثرواتها وديمغرافيتها فأوروبا تحديداً تسعى للعودة إلى مواطن كانت تستعمرها في هذه القارة الغنية بثرواتها خصوصاً بعد الحرب على اوكرانيا من قبل روسيا وما يعانيه الأوروبيون من ارتفاع تكلفة الطاقة والمعادن التي تصدرها روسيا لهم.
فمساحة إفريقيا تبلغ حوالي 30 مليون كم مربع وعدد سكانها 1،2 مليار نسمة يتوزعون في دول القارة التي يبلغ عددها 54 دولة أما من حيث الأهمية فإن 30 بالمائة من احتياطي المعادن بالعالم في إفريقبا وكذلك 40 بالمائة من الذهب و12 بالمائة من احتياطي النفط العالمي وكذلك 8 بالمائة من الغاز وغيرها من الثروات الطبيعية من المعادن النادرة إضافة إلى 10 بالمائة من مصادر المياه العذبة المتجددة داخلياً، فمن المتوقع أن يتضاعف الناتج الإجمالي لدول القارة مجتمعة من حوالي 2،5 تريليون دولار حالياً إلى عشرة تريليونات عام 2040 كأكبر معدل نمو بين القارات كما تشير بعض الدراسات إلى أن عدد السكان بالقارة سيتضاعف خلال العقود الثلاثة القادمة إذ أن حوالي أربعين بالمائة من الأفارقة أعمارهم دون 15 عاماً فهذه المعلومات البسيطة عن القارة توضح أهميتها في الحاضر والمستقبل حتى إن مجموعة السبع أقرت مبادرة إعادة بناء العالم لتنافس مبادرة الحزام والطريق الصينية والتي رصدوا لها 600 مليار دولار ستوجه للبنى التحتية في الدول النامية والتي ستكون دول إفريقيا من أهمها إلا أن الصين سبقتهم وأصبح تواجدها راسخاً بالقارة السمراء وتحظى بقبول كبير بما أن نموذجها تنموي بعكس تجربة الأفارقة مع الغرب الذي استعمرهم لعقود ونهب ثرواتهم وتركهم دولاً بائسة في حينه حتى أصبحت الصورة النمطية عن القارة وشعوبها سلبية من حيث التخلف بالتعليم والصحة وانتشار الأمية والأمراض رغم أن دول إفريقبا تقدمت كثيراً بالعقود القليلة الماضية وأصبحت شعوبها أكثر تسارعاً بالتعامل مع التقنية واستقطاب الصناعات إلا أن ما تملكه من إمكانيات وثروات أكبر بكثير مما تستغله حالياً.
لكن ما يلفت النظر بالتحرك الأمريكي تحديداً هو عودتها لمبدأ ايزنهاور ومشروعه المعروف بسياسة ملء الفراغ التي أعلنها العام 1957 بفترة الحرب الباردة فما تعترف به الكثير من دوائر القرار وكذلك كبار منظري السياسة الأمريكية أن ثمة اخطاءً ارتكبت بسياسة دولتهم الخارجية مثل إهمال إفريقيا مما أدى لتغلغل الصين ومن ثم روسيا فيها وتأخرهم بإطلاق مبادرات لإيجاد شراكات تجارية واسعة مع دول القارة فالصين سبقتهم بأكثر من عقدين كذلك تأخر مشروع تنظيم هيئة الاستثمار لما وراء البحار الأمريكية والذي طالب بسرعة اعتماده بعض أعضاء حكومة ترمب الرئيس الأمريكي السابق فسد الفراغ الذي تتسابق عليه أميركا وأوروبا قبل أن تملأه روسيا والصين في إفريقيا سيكون محموماً بالسنوات القادمة وقد تشهد القارة حراكاً سياسياً واقتصادياً غير مسبوق فبقدر ما تمثل إفريقيا من أهمية اقتصادية وسياسية للعالم إلا أن هناك مخاطر كبيرة بتركها دون أن تتسارع فيها معدلات النمو الاقتصادي والتنمية الصحيحة فما زالت الهجرات غير الشرعية من دولها لأوروبا كبيرة وهو ما تراه الأخيرة خطراً كبيراً عليها فبناء اقتصاد تلك الدول النامية أقل تكلفة وأكبر منفعة من استقبال المهاجرين غير الشرعيين منها إضافة لظاهرة الحياة البدائية التي مازالت بمجتمعاتهم واحتكاكهم الكبير مع الحيوانات مما يتسبب بانتقال الفيروسات الخطرة للبشر وهو ما ظهر في فترات عديدة مثل الإيبولا وغيرها هذا بخلاف استغلال بعض الجماعات الإرهابية والمافيات لحالة فقر بعض دول القارة لتجعلها موطناً لها ومنطلقاً لعملياتها الإجرامية فعوامل كثيرة تجتمع لتسابق القوى العالمية نحو إفريقبا.
في العام 2050 سيولد طفلان من كل خمسة أطفال بالعالم في إفريقبا ومع توقعات النمو الاقتصادي الكبيرة ووجود ثروات هائلة فيها فإن السباق إليها سيتسارع من قبل القوى الكبرى والجميع سيحاول أن يتموضع فيها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وذلك ضمن رحلة بحث كل قوة عالمية كبرى عن مكاسب جغرافية جديدة وعدم ترك أي فراغ سيستغله منافس آخر فمؤخراً اعترف الرئيس بايدن بخطأ بلاده بترك فراغ بالشرق الأوسط فتح المجال لروسيا والصين لتعبئته وما زيارته للمنطقة التي قام بها مؤخراً إلا إعلان عن تصحيح هذا الخطأ لكن ليس بالضرورة أن تكون تحالفات الغرب مع دول إفريقيا والشرق الأوسط كما يتمنون فالعالم تغير كثيراً وظهرت أقطاب جديدة وأصبح من الصعب العودة لما كانت عليه التحالفات والعلاقات قبل نحو عقدين من الزمان.