شهد النقد الأدبي العربي حراكاً جميلاً؛ تبعاً لتطور العلوم في عصرنا الحديث، واستمتعنا بنتاج نفر من النقاد العرب، استوعبوا المناهج والنظريات النقدية الغربية، واجتهدوا في توظيفها بما يناسب الأعمال المتناولة وسياقها الثقافي والحضاري العام. ومع توافر الوعي النقدي والثقافة المتجددة لدى كثير من النقاد في مشرق العالم العربي ومغربه، ظل كثير منهم تابعاً لما يكتبه الغرب.
جميل أن يفيد نقدنا العربي المعاصر من النقد الغربي في مقاربة أعماله الأدبية؛ فقد يكون لذلك أثر في إعادة صياغة تصورنا للأدب، ولكن يجب أن يؤخذ بوعي تام؛ لأن دراسة أي نتاج أدبي، يجب أن تقوم على ما يأتلف معه من آليات ومناهج، وأن يكون هناك وعي بتشعب المناهج وعدم استقرارها، وإدراك لما يطرأ عليها وعلى أصحابها من تحول، ومعرفة باختلاف اللغات وتغير الثقافات. ومن المؤسف أننا حين نجيل الطرف في أعمال نقادنا؛ نجد أن الالتزام بهذا لا يكاد يتوافر في كثير منها، وأن أهم صفة من صفات الناقد الناجح (سعة الاطلاع ومواكبة الجديد) لا تتوافر في كثير ممن يتصدون لدراسة أدبنا.
وقد أخذت قضية المنهج حيزاً كبيراً من تفكير نقادنا والمهتمين بأدبنا العربي، وأنكر بعضهم – من باب الغيرة على أدبنا – على من يقتفون أثر الخطاب النقدي الغربي، ونادى بالإفادة من الإرث النقدي العربي؛ لبناء نظرية نقدية عربية متوازنة، تأخذ بالجديد المفيد، مصطفية من التراث ما يرفده.
ورأى بعض الباحثين والنقاد، أننا بحاجة إلى مراجعة الحركة النقدية العــربية في هذا العصر، بعد الانفتاح الواســع على الأدب الغــربي، والتأثر -دون وعي- بنظرياته ومناهجه وآلياته في مقاربة الأعمال الأدبية العربية.
ومن أهم عوامل التأثر في الأدب الغربي حركة الترجمة التي ظلت الوسيلة المهمة لنقل الثقافة الغربية إلى فكرنا وأدبنا؛ إذ إنها تعد نشاطاً ثقافيّاً هادفاً، وعملاً علميّاً له أثره الكبير في تواصل الأمم وتلاقح الثقافات. ويهمنا في هذا المقام ترجمة الأدب والنقد التي تعد رهاناً صعباً؛ من أجل ذلك شاعت عبارات تربط الترجمة بالخيانة، وتَعُدُّ عدم الوفاء أمراً جوهريّاً في كل ترجمة، وخاصة ترجمة الأدب التي تعد -كما يقول د. واسيني الأعرج-:»ضرباً من الخيانة الإجبارية».
ولا شك في أن المترجم حين يتناول الإبداع الأدبي المشع بالصور والظلال، تعن بفكره تأويلات كثيرة، قد تصيبه بالحيرة؛ لمراوغة بعض الألفاظ وإفضائها بدلالات قد تصرف الذهن عن المعنى الذي أراده المبدع.
هذه الحيرة يعيشها مترجم النص الأدبي، القائم على قيم جمالية، مهما كان مستوى تمكنه من اللغتين، ومبلغ فهمه للدلالات الدقيقة للنص المترجم.
وقد عبر بعض الأدباء عن تجاربهم في هذه السبيل، يقول أحمد فارس الشدياق (أحد رواد النهضة العربية الحديثة/ العالم اللغوي/ الأديب الموسوعي):
أرى ألف معنى ما له من مجانس
لدينا وألفاً ما له ما يناسب
وألفاً من الألفاظ دون مرادف
وفصلاً مكان الوصل والوصل واجب
أما ترجمة النظريات النقدية، وما تنطوي عليه من أفكار وقضايا، فمن المؤكد أن تفاوت وعي المترجمين بما بين المصطلحات والمفاهيم النقدية من فروق ذو أثر كبير في تداخل المفاهيم وغموض بعض المصطلحات، فبعض المترجمين -مثلاً- لا يدرك أن تاريخ الأدب مفهوم مختلف عن التاريخ الأدبي، وأن لفظة (المكان) لا تعبر تعبيراً دقيقاً عن الفضاء، ومنهم من لا يترجم عن اللغة الأصل، كما حصل في بداية استقبال نظرية التلقي في عالمنا العربي وما صاحب تلك البداية من مصطلحات أُخذت من لغة وسيطة غير الألمانية؛ ومثل هذا يفضى إلى اضطراب المفاهيم، وتشتت الأذهان؛ من أجل ذلك، يجب أن نكون حذرين حينما نزمع اقتناء الكتاب المترجَم أو الاعتماد عليه، فلا يبهرنا العنوان عن التحقق من اسم المترجِم وصلته بالتخصص، فكما نبحث عن القيمة العلمية للكتاب، يجب أن نبحث عن القيمة العلمية لمترجم الكتاب.
** **
- د. محمد بن سليمان القسومي