وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنه
فتوسعه بأنواع السقام
كانت هذه أشهر أبيات المتنبي في وصف الحمى، ولا أظن شاعرًا آخر قد تفوّق عليه في وصفها.. وإن كانت هناك أبيات لشعراء قدماء ومحدثين نظموها معبّرين عما نالهم من آلام الحمى التي لا تطرق غالبًا إلا في الليل فتحرم من تزوره النوم مختليةً به وقد نام كل من حوله فطال عليه ليله وإن قصر.
ومن الشعراء الذين ذكروا الحمى الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله فيقول مصورًا ما يشعر به وقد اشتدت عليه حُمّاه:
أحس بالرعشة تعتريني
والموت يسترسل في وتيني
وهذا أبو هلال العسكري يصف حاله والحمى تطرق بابه في كل حين وما يعقبها من صداع رأس واصفرار لون فيقول:
وأخبر أني رحت في حلة الضنى
ليالي عشر ضامها الله من عشر
تنفضني الحمى ضحى وعشية
كما انتفضت في الدجن قادمتا نسر
تذر علي الورس في وضح الضحى
وتبدله بالزعفران لدى العصر
إذا انصرفت جاء الصداع مشمرا
فأربى عليها في الأذية والشر
وما أحسن قول الدليمي وهو يستقي معناه مما سبقه إليه المتنبي فيصف زائرة الليل التي تحرم مضيفها طعامه وشرابه ثم تبيت في أحشائه حتى يصيبه كرب عظيم فيسأل الله بُعدها..
وزائرةٍ تزور بلا رقيب
وتنزل بالفتى من غير حبّهْ
تبيت بباطن الأحشاء منه
فيطلب بعدها من عظم كربهْ
وتمنعه لذيذ العيش حتّى
تنغّصه بمطعمه وشربهْ
ويقول ناصر الدين حسن بن النقيب معبرًا عن ثقل زائرته ورغبته في الخلاص منها:
أقول لنوبة الحمى اتركيني
ولا يك منك لي ما عشت أوبه
فقالت: كيف يمكن ترك هذا
وهل يبقى الأمير بغير نوبه
وأما الرستمي فقد نظم في الحمّى أبدع الأبيات وأحسنها.. حيث زاد على من سبقوا أنه صوّر فعل الحمى بذوي البأس والسطوة من الناس فلا تبرحهم حتى تفوح رائحة أجسادهم ربما من أثر التعرّق الذي يعلن انتهاء نوبتها:
وزائرة أتت من غير وعدٍ
لتأخذ منك حظًّا من نوالِ
هي الحمى التي تضحى وتمسي
على ليث الشرى في كل حالِ
رأت سطوات بأسك في الأعادي
فظنتك الهزبرَ من الرجالِ
فلما فاح عرفك من بعيدٍ
تولتْ بانكسار وانخذال
وقد ذكر المتنبي عرق الحمّى أيضًا في قصيدته فقال:
إذا ما فارقتني غسَّلتني
كأنَّا عاكِفان على حرامِ!!
وذُكرت الحمى كذلك في ما أُثر عن السلف الصالح. فمما يُروى عن أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن الصحابة بعد هجرتهم إلى المدينة أصابهم وباء فكان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا أخذته الحمّى يقول: كُلّ امرئ مُصَبّح في أهله، والموتُ أَدْنى من شراك نَعْلِهِ..
وكان بلال إذا أَقلعت عنه يَرفع عقيرته ويقول:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً
بوادٍ وحَوْلي إذْخر وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ
وهل يبدوَن لي شَامَة وطَفِيل
ولما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة تسب الحمى قال لها: «لا تسبي الحمى؛ فإنها تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد».
هذا بعض ما كان من أدب الحمى قديمًا وحديثًا، وأحسبنا نعجز عن الإتيان بمثله اليوم وقد كثرت الأوبئة وانتشرت الفيروسات، وحُمّ الناس حتى امتلأت بهم المشافي، مع توفّر الأدوية والعلاجات فلا تلبث إقامتها لدينا أكثر من ثلاثة أيام غالبًا، ثم تشد رحالها فرارًا من المضادات الحيوية التي لم يعرفها الأولون ممن سامروا الحمى وقضوا لياليهم الطوال يصورون فعلها بهم، ويذكرون حديثهم معها.
لكن ماذا عن السعال الذي لا أظنه يختلف عن الحمى في شيء؛ فهو ينفض الجسد نفضًا تتوجع منه الأعضاء، ثم إنه يشتد ليلاً منفردًا بمرضاه بعيدًا عن الناس الذين ينكرونه على صاحبه نهارًا؛ فتارة يحضرون له دواءً مهدئًا دون جدوى، وتارة يصفون له وصفات عشبية، وليست بأنجع من تلك الكيميائية.. بل إن بعضهم يعبِّر عن انزعاجه - ولا يُلام في ذلك - بقوله «أزعجتنا بكحتك.. قم شف لك حل في نفسك»، ثم يكابد سعاله ليلاً وقد استبدّ به بعدما فرّ أهله منه فرارهم من المجذوم..!!
ماذا عنه هذا السعال؟.. هل ذكره الشعراء؟ وهل صوَّروا أصواته المتنوعة وأثرها في حنجرته وقصبة الهواء، وما يلحق ملامح صاحبه وهو يخرجه من صدره من انكماش وعبوس وتجهّم؟ وماذا عن اهتزاز جسده بأكمله، وتقلُّص معدته وانتفاخ رئتيه وسيلان عرقه مع كل نوبة سعال..؟!!
هل وصفوا الشهيق العميق الذي يسبق كل سعلة.. والأنفاس المتلاحقة.. والكلمات المتقطعة؟!!
هل عبّروا باستعاراتهم وكناياتهم عن جمع المسعول لأصابع كفه على شكل قبضة عمودية، يلصقها بفمه؛ ليلتقط رذاذ سعاله..؟!!
هل وصفوا عينيه الغائرتين وقد استبد بهما التعب والإرهاق؟!
كل هذه التساؤلات لماذا لم أجد أجوبةً عنها لدى الشعراء الذين خلّدوا ذكرى مغامراتهم مع زائرة الليل.. أم إنّ السعال لا يزور الشعراء..!!!
** **
- حنان سالم الغامدي