رمضان جريدي العنزي
سالت الدماء، وتهدمت البيوت، وتكسرت الأنفاق، والممتلكات أكلتها النيران، والشوارع صارت حفراً من أثر الصواريخ والقنابل، والطائرات تسقط قذائفها على الأبراج لتحيلها إلى أثر بعد عين، والأدخنة عمّت الفضاء، اشتد الحصار، ومات الناس بالمئات، وتشرد الحي منهم، وساد الخوف والرعب، واكتظت المستشفيات بالقتلى والجرحى، فقد الوالدان أطفالهم، وفقد الأطفال والديهما، وتمزق شمل الأسرة، والحال صار مدهشاً ومراً ومرعباً، كثر النزوح واللجوء والموت تحت القصف اليومي، صراخ وعويل واستجداء، الأحلام ماتت، والأماني تلاشت، والمستقبل ضاع، والحياة صارت أضيق من خرم الإبرة، فهل هناك رعب أدهى وأمر من رعب الحروب؟
كل شيء هناك لحقه الأذى والخراب، الأرض والإنسان والنبات والحيوان، كل المناطق والأحياء والشوارع صارت مسرحاً للقتل، صارت كل مدينة وحي وضيعة حزينة، مقطعة الأوصال، مهجرة السكان، القتل صار في كل مكان في غزة، والدم سال، والخراب كبر، حواجز أمنية، وإهانات، واللغة العدائية سادت، نمت وكبرت، الناس هناك أصبحوا يبحثون عن أمكنة لا يشمون فيها رائحة الحرائق التي تملأ الهواء، يبحثون عن شوارع لا يمشون فيها على آثار الدماء، يبحثون عن واجهات جميلة، وجدران قائمة نظيفة، وأرصفة أنيقة، عن حديقة يانعة، عن خميلة، عن فجر صافٍ، عن ظهيرة هادئة، وعن مساء رقيق، لكنها الحرب التي دمرت كل شيء حي ونابض، فعلها كبار الأحزاب وقادته، وتأثر بها الإنسان البسيط الذي يبحث عن قوت يومه وستره، والذي ينخره الفقر يؤلمه ويوجعه، إنها صورة تجمع مآسي الدنيا كلها وتثبت الأسى المر حينما ترى الكبار الذين أشعلوا فتيل الحرب ينعمون بالفاكهة الناضجة والسرير الفخم والديباج والمخمل، يتبضعون في الأسواق، يشترون أغلى الألبسة وأثمن المجوهرات والإكسسوارات ويتنزهون على الشاطئ، ويتصورون مع أبنائهم مرتدين أفخم الملابس، ويبيعون الوهم والشعارات الرخيصة للسذج، خطب حماسية، وعنتريات مجنونة، وصراخ وتصفيق، وبهلوانيات، ثم يعودون لمخادعهم في أرقى الفنادق، ليتفرجوا بتلذذ على دماء الضحايا من على شاشة التلفزيون العريضة، بينما الإنسان البسيط المعدم يعيش العذابات المتواصلة ويتوسل الخبز والماء، ويبحث عن الظل والملجأ، ويزور القبور، لقد تاجر هؤلاء بدماء الأبرياء وآلامهم، وجمعوا الثروات، وزينوا القصور، ولبسوا الأغلى والثمين، أموالهم في البنوك عامرة، وسياراتهم فاخرة، وحدائقهم غناء، ومن الحرب التي أشعلوها يفرون.
إن الثورة والثروة نقيضان، لكن الحركات المسلحة، والأحزاب المتأسلمة، تجمع الثروة على حساب الثورة، وتتاجر بالدماء، إن ثوار الفنادق، ومناضلي الحانات، لا يهتمون بالناس، ولا ماذا يقدمون لهم، بقدر ما يهتمون بأنفسهم، إن السفينة الفلسطينية تتعرض للغرق المؤكد من فعل هؤلاء العنتريين، التي غابت عنهم المبادئ الوطنية، واشتغلوا بمصالحهم الشخصية، تارة بالصراع على الكراسي، وتارة بالنضال الفندقي، والضحية الإنسان الفلسطيني البسيط، الذي ضاع وتاه وتشتت، حاصره الجوع، وأهلكه الظلم، وفقد مستقبله وأمله.