شرَّف الله المملكة العربيَّة السعوديَّة فيما شرَّفها، بالفضل العظيم باختيار مكَّة المكرَّمة منطلقًا لنداء الإسلام الأبديِّ الذي انطلق به رسول الله محمَّد بن عبد الله عليه الصَّلاة والسَّلام. وامتدَّ ذلك التَّشريف إلى المدينة المنوَّرة، حاضرة الإسلام الأولى، ومُنطلَق نشأة الحضارة الإسلاميَّة؛ وبينهما وفي رحابهما نزل الرُّوح الأمين على خير المرسلين بكتاب الله المبين، القرآن الكريم.
وعلى مرِّ التاريخ ظلَّ كتاب الله المجيد والحرمان الشَّريفان والحجُّ محطَّ اهتمام من أوْكل الله إليه أمر المدينتين المقدَّستين. ثم شاء الله أن يقيِّض لهذه البلاد الملك عبد العزيز آل سعود الذي بفضل الله جمَّعها من شتاتٍ ووحَّدها من فرقةٍ وأمَّنها من خوف وأغناها من فقر. وعمل -رحمه الله - وأبناؤه الكرام البررة من بعده على العناية بكتاب الله والحرمين الشَّريفين وشؤون المسلمين. وتُمثِّل توسعات الحرمين الشَّريفين ومشروعات المشاعر المقدَّسة وطباعة المصحف الشريف شواهد لا تخفى على تلك العناية السَّامية التي بلغت أوجها في عهد خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسموِّ وليِّ العهد الأمير محمد بن سلمان الذي أكَّد في رؤية المملكة 2030 أهميَّة الحرمين الشَّريفين باعتبارهما أطهر بقاع الأرض، وقبلة أكثر من مليار مسلم: «وهذا هو عمقنا العربي والإسلامي وهو عامل نجاحنا الأوَّل». ويشهد التَّاريخ على أنه لم تعمل دولةٌ عبرَه للحرمين الشَّريفين والقرآن الكريم ولشؤون المسلمين كما عملت المملكة العربيَّة السعوديَّة.
عني الملك المؤسِّس -رحمه الله - بالعناية بالقرآن الكريم وكان تعلُّم القرآن الكريم وختمه أحد ما حرص عليه لأبنائه ومجتمعه. وبالإضافة إلى تعليم القرآن الكريم في مراحل التَّعليم أنشأت الدَّولة مدارس وإذاعةً خاصَّةً بالقرآن الكريم، كما تنظِّم مسابقاتٍ محليَّة وعالميَّة في تلاوة القرآن الكريم وحفظه وتفسيره. وقد تمَّت طباعة وكتابة المصحف الشَّريف محليًّا عدَّة مرَّات وعلى مراحل زمنيَّةٍ مختلفةٍ بدءًا من عهد الملك عبد العزيز في تأكيدٍ آخر على حرص ولاة الأمر البالغة على العناية بكتاب الله. ويُروى أنَّه -رحمه الله - فرح فرحًا كبيرًا بظهور المصحف الذي طُبع في عهده. وقد تمثَّلت عناية المملكة بالقرآن الكريم في أبهى صورها في إنشاء مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشَّريف بالمدينة المنوَّرة، وامتداد رعايته ودعمه.
كانت كتابة المصحف الشَّريف عبر التَّاريخ أحد أهمِّ الأعمال التي يحرص على إنجازها الخلفاء والملوك والولاة عبر العالم الإسلامي. وانطلاقًا من أنَّه لم تسبق كتابة مصحفٍ بمستوىً تاريخيٍّ خاصَّةً في الجزيرة العربيَّة منذ قرون، وامتدادًا لما توليه المملكة من عنايةٍ واهتمامٍ بكتاب الله الكريم، جاءت فكرة العمل على كتابةٍ حديثةٍ للمصحف الشَّريف على يد أحد أشهر الخطَّاطين المسلمين. وقد جاء إعلان وزارة الشُّؤون الإسلاميَّة عن الأمرُ السَّامي الكريم بالموافقة على تنظيم الوزارة المسابقة الدوليَّة لكتابة المصحف الشَّريف (مصحف المؤسِّس) بإشرافِ مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشَّريف بالمدينة المنوَّرة، إحياءً لتلك الفكرة في إطارٍ عملي موفَّق. وتتضمَّن المسابقة أهدافًا مهمَّةً أخرى منها إبرازُ جهود وإبداعات المعاصرين من خطَّاطي العالم في كتابة المصحف الشَّريف، وإتاحةُ الفرصة لهم للمشاركة في شرف كتابة مصحفٍ كريمٍ يحملُ اسمَ المؤسِّس -رحمه الله - وتكريم أمهر خطَّاطي المصحف الشَّريف وتقدير أعمالهم وجهودهم في خدمة الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وتأتي المسابقة امتدادًا للنَّشاطات العلميَّة المتميزة للوزارة من خلال مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشَّريف حاملةً هدفًا ساميًا يتمثَّل في تأكيد وإبرازِ عنايةِ المملكةِ العربية السعودية بخدمة القرآن الكريم من خلال إنتاج مصحفٍ مبدعٍ عبر استنطاق أيدي المتميِّزين مِن الخطَّاطين مِن مختلف أنحاء العالم، خاصَّةً وأن الحاجة ما زالت قائمة لإصدار هذا المصحف الذي سيكون -بإذن الله - أوَّل مصحفٍ ذا أهميَّةٍ تاريخيَّةٍ وفنيَّةٍ يُكتب في الجزيرة العربيَّة بعد مصحف الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفان، رضي اللَّه عنه.
يعدُّ دور وزارة الشؤون الإسلاميَّة رئيسيًّا، على أنَّه يمكن أن يكون مستقبلاً لما يتعلَّق بدور الوزارة من خلال مجمَّع الملك فهد في طباعة المصحف ونشره عالميًّا. وتبدو خطوات كتابة المصحف التي لن تتوقَّف عن الابتكار والتطوير أقرب إلى جهةٍ معنيَّةٍ بالخطَّ العربيِّ وفنونه. ولعلَّ مركز الأمير محمَّد بن سلمان العالمي للخطِّ العربيِّ الأقدَر على تحمُّل هذه المسؤوليَّة بحكم دوره وإطار عمله وكونه منصَّةً دوليَّةً للخطِّ والخطاطين في إطار رؤيته الهادفة إلى «الارتقاء بالخط العربي بصفته وسيلة تواصل عالميَّة عابرة للثقافات في مجال التراث والفنون والعمارة والتَّصميم، مع تعزيز مكانة المملكة وتأثيرها في حفظه وتطويره».
لعلَّه من الأمثل أن يتمَّ تطوير الفكرة إلى إنشاء دار عالميَّةٍ للقرآن الكريم تكون مسؤولةً عن كتابة المصحف الشَّريف، وتصبح مركز بحثٍ ثقافيٍّ ومتحفًا للقرآن الكريم وفنونه يضمُّ قاعدة معلوماتٍ تضمُّ نسخًا من أهمِّ المصاحف العالميَّة والمحليَّة تتكامل جهوده مع مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشَّريف، بحيث يصبح المركز المرجع الأساس لهذا الجانب المهمِّ من التراث الإسلامي. وقد يكون من المناسب إطلاق اسم سموِّ الأمير محمد بن سلمان على هذه الدار لتكون «مركز الأمير محمد بن سلمان للقرآن الكريم»، اعترافًا بفضله واهتمامه -حفظه الله - بزيادة تمكين البعد الحضاريِّ الإسلاميِّ للمملكة، وعنايته بالخطِّ العربي. وستكون تلك الخطوة نموذجًا ناصعًا آخر لعناية المملكة بالحرمين الشَّريفين وشؤونها وبالتراث الإسلاميِّ في ظلِّ قيادة خادم الشَّريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ووليِّ عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز -حفظهما الله تعالى.