م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. النهضة هي الارتفاع والارتقاء والحركة والتقدم في الاتجاه الصحيح، هي البناء والنمو والإبداع والإنتاج الذي يظهر على أرض الواقع.. النهضة حركة متكاملة تشمل الأفكار والسلوك والأخلاق والقيم، وهي في المقام الأول حركة عقلية فكرية مفاهيمية تطبيقية وفق منهج.. النهضة هي الانتقال من حالة إلى أخرى أفضل وأرقى، ونظام يتم تطبيقه على الجميع، وشفافية في كل التعاملات.. النهضة هي حالة الدولة في وضع الصعود لتكوين حضارة.. فالنهضة نتيجتها حضارة.
2. النهوض ليس له ارتباط بالتاريخ، هو حالة آنية لحظية فورية، إذا بدأت استمرت وإذا توقفت انتهت.. النهوض ليس له علاقة بالأيديولوجيا ولا العادات والتقاليد المجتمعية بل له علاقة بالفكر والحالة الفكرية التي تبتغي النهوض والتقدم وتحسين الحالة المعيشية.. النهوض يركز على الواقع لا على الأوهام، وعلى المستقبل لا على الماضي.. وهو جهد ذاتي لا يعتمد على الغير ولا يستورد من الآخر، ويستمر بدافع داخلي لا دوافع خارجية.. النهوض يمكن أن يستورد أدواته ومناهجه من علوم ومعارف وعمارة وتقنيات وفنون وآداب لكن تطبيقه وتوجهه نحو مستقبل وتطلعات مجتمعية لا يتم إلا بأيدي أهله.
3. الحضارة هي نتيجة للنهضة التي هي بدورها نتيجة لتنمية مستدامة في مجالات الحياة العامة على المستوى الإنساني من حيث التعليم والصحة والحالة المعيشية.. ثم على المستوى المادي من حيث العمران والسكن والطرق والمباني والخدمات عامة.. ثم على المستوى النظامي من حيث التطبيق والالتزام والعدالة في الحقوق والشفافية.. ثم على المستوى السياسي من حيث الشورى والمساواة وتكافؤ الفرص.. ثم على المستوى الفكري من حيث المفاهيم والقيم وحرية التفكير والتعبير والحوار.. أي أن الحضارة تتشكل حينما تزدهر كل مكونات الدولة فكرياً وبدنياً وعمرانياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وبشكل متكامل.. وحينما تصل الدولة إلى أن تكون ذات أثر على المحيط حولها سواء على المستوى الثقافي أو الفني أو التقني أو الاقتصادي أو حتى العسكري.
4. الحضارة تتحقق مع اكتمال أنظمة الدولة من نظام سياسي وقضائي وتعليمي وصحي ومهني وثقافي واقتصادي.. أي أن تكون الدولة ذات منهج واضح ومعروف من الجميع والكل يتقيد به.. وتكفل لمجتمعها حياة مريحة مرفهة تفوق غيرهم.. وتسير وفق هدف أو أهداف مستقبلية معلنة تحقق مزيد من التقدم والرقي ليس لها وحدها بل للعالم من حولها.. وتتكامل فيها كل مكونات النجاح المادية والبشرية والموارد الطبيعية والإنتاج.
5. دول غرب أوروبا ودول سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية في آسيا تعيش النهضة لكنها لم تصل إلى مستوى تأسيس الحضارة، فتأثيرها داخلي محدود، عكس أمريكا التي تمثل حضارة، هذا العصر.. من زاوية أخرى الاتحاد السوفييتي (السابق) كان يمثل قوة عظمى لكن ليس حضارة فقوته عسكرية فقط وليس له أي تأثير على العالم بخلاف ذلك.. بمعنى أن الحضارة تتجاوز القوة العسكرية التي تفرض سطوة الدولة على الدول الأخرى، أو الازدهار الاقتصادي الذي يجتاح العالم باستثماراته، أو التقدم الرياضي أو الفني أو الثقافي فقط، أو الانتشار الصناعي الاستهلاكي الذي يغرق العالم بمنتجاته كما تفعل الصين اليوم.. هذه العوامل لا تصنع حضارة.. الحضارة هي الأثر الذي يبقى في البشر فالإغريق مثلاً أثرهم الفكري باقٍ في العالم إلى اليوم.. والمسلمون أثرهم باقٍ في العالم إلى اليوم.. وهكذا.
6. بعد كل ما مضى، ما هو الفارق بين النهضة والحضارة؟ فإذا عرفنا أن الحضارة ما هي إلا نتيجة للنهضة ولا يمكن قيام حضارة دون نهوض يؤسس لها.. إذاً الفارق هو أن النهوض عمل فوري بينما الحضارة هي انتظار النتيجة.. النهوض قد يقتصر على مجال معين فقط وهذا لا يحقق قيام الحضارة.. النهوض المؤسس للحضارة لا بد أن يتكامل فيه الفكر مع العمل مع الاستدامة في كل المجالات الحياتية.. النهضة تؤسس البناء الداخلي الذي يكون مستعداً للتقدم والتطور والصعود، ومهيئ لجذب الكفاءات والقدرات المتفوقة التي تبحث عن بيئات عمل صالحة لنشر إبداعاتهم.. الخلاصة أن الحضارة لا تقوم بلا نهضة، وأنها تحتاج إلى زمن طويل حتى تعلن عن نفسها كحضارة.