رمضان جريدي العنزي
تكون الدية واجبة في قتل الخطأ وشبه العمد إلا إذا عفا فيها أولياء المقتول، وتكون واجبة في قتل العمد إذا مات القاتل أو عدل أهل المقتول وعفوا عن القصاص إليها، وهي واجبة على كُلّ إنسان أتلف إنساناً بمباشرة أو تسبّب، سواءً كان صغيراً أم كبيراً، عاقلاً أم مجنوناً، مُتعمّداً أم مُخطئاً، وسواءً كان الإنسان التالف مسلماً أم كافراً ذمّياً، مستأمناً أم معاهداً، وهي تعد جزاءً يجمع بين العقوبة للجاني والتعويض للمجني عليه أو أهله، ومن حكمتها الزجر والردع للجُناة مما يساهم في حماية الأنفس، والتعويض عن الأنفس أو الأعضاء بالمال الذي يحصل عليه الطرف الآخر، وعلى الرغم من حرص الشارع الحكيم على العفوِ، إِلّا أن كثيراً من أولياء الدم في زماننا هذا أصبح همهم الأكبر هو الحصول على دية كبيرة لا يتحمّلها القاتل من أجل التنازل عن القصاص، وأصبحَ الأمر وكأنه تجارة عندَ أهل المقتول، وبهذا تحوَّل مفهوم العفو إلى وسيلة لاكتساب المال من خلال «المتاجرة بالدم» في طلب الديات المبالغ فيها وربطها بفترة زمنية محددة. إن استمرار المتاجرة بالدم تحت مسمى «الدية» والتي تجاوز بعضها 50 مليون ريال هو أمر تعجيزي يفوق ظروف الناس ومقدرتهم على تأمين هذه المبالغ المحددة قيمةً ووقتاً، إن هذا الأمر أصبح لا يقرّه عقل ولا منطق، فالناس صارت ضحية بين مطرقة المتاجرين بالدماء وسندان الجناة، إن هذا الأمر الخطير أصبح مبنياً على إعسار الناس ويجب أن يلتفت له من كل الجهات المعنية حرصاً على حرمة الدماء وتخفيفاً على جيوب الناس وعدم حملهم ما لا يطيقون، لأنها أموال مبالغ فيها تتنافى مع مقاصد هذه العقوبة وتحويلها لأبشع أنواع التجارة، وهي مخالفة لمقاصد الشريعة من التسامح والعفو الذي من أجله شرعت الدية، إن ظاهرة طلب الديات الكبيرة أصبحت مقلقة لأولياء القاتل وجماعته، وعندما يوافق أولياء الدم على التنازل لا ينظرون إلى مقدار ما يدفع فهم يريدون إنقاذ الجاني من القصاص بأي ثمن، إن الرضا بالدية الشرعية المحددة، أو الصلح على مال غير مبالغ فيه مبالغة فاحشة أمر مطلوب ومرغوب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبُِّمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (178 - 179 سورة البقرة)، لقد تحولت مبالغ (الديات) المتعلقة بقضايا القتل العمد والخطأ وقضايا الصلح إلى أرقام قياسية فلكية لا يصدقها عقل ولا يستوعبها لب، وأصبحت متاجرة مكشوفة بالدم وقرصنة لجمع المال، وعليه يجب إيجاد الحلول السريعة من قِبل السلطات المعنية لإيقاف هذا الفعل الذي لا يقرّه منطق ولا عقل، بل يجب إلزام الجميع بعدم المساهمة في المبالغ المليونية المالية الطائلة والتي إن أنقذت شخصاً من حد السيف، فإنها تفرغ جيوب الناس وتثقل كواهلهم وتشكّل لهم مأساة أخرى لا يجب أن تكون. إن الترغيب بالعفو في خطب الجمع بشكل مكثّف وكذلك وسائل الإعلام واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي لنشر قيم العفو والتسامح، وطلب الأجر من الله، سينتج عنه حتماً سد هذا الباب، وإقفاله للأبد. أخيراً يبقى الجانب القانوني والقضائي هو الفيصل في استمرار المغالاة في الديات أو اختفائها.