عبدالوهاب الفايز
تناولت المقالات الثلاثة السابقة المفاهيم والممارسات المهددة للهوية الوطنية، وتطرقت إلى مفهوم (المواطنة العالمية) ودور المدارس التي تُعلم بالمناهج الدولية وباللغة الإنجليزية. والموضوع يستوجب أن نبحث ونتحرى عن أساس المشكلة بموضوعية، أي: ما هي العوامل التي دفعت أولياء الأمور لتدريس أنجالهم بتلك المدارس، رغم ما قد يترتب على رحلة التعلم من نتائج غير مرغوبة تجعل البعض من الآباء والأمهات يعيشون صراع الضمير، ويتقلبون في الأسى بعد رؤية الأبناء يتساهلون بأمور الدين والهوية والوطن.
إذا تتبعنا المشكلة من جذورها فسوف نجد أن التعلم بالمدارس الدولية يحقق الآتي: يساعد في الدراسة الجامعية بعد أن أصبحت المناهج الدراسية في الكثير من التخصصات بجامعاتنا تقدم باللغة الإنجليزية. أيضًا يسهل دخول الكوادر البشرية الوطنية إلى الوظيفة في القطاع الخاص الذي يفضل إجادة اللغة الإنجليزية. ولم يتوقف رفع سقف التطلعات إلى مخرجات التعليم لدى القطاع الخاص على شرط اللغة الإنجليزية، بل تم إدراج الأفضلية لخريجي المدارس الدولية، بدعوى أن مناهجها أفضل، وتلبي متطلبات سوق العمل.
هذه الاعتبارات التي يراها الآباء والأمهات مبررًا لإلحاق الأبناء بالمدارس الدولية ما زالت تتجدد وتتوسع على أرض الواقع، وتجعلهم أمام أمرين أحلاهما مر: المخاطر المحتملة على هوية وثقافة الأبناء، واحتمالات صعوبة الدراسة بالجامعات أو البطالة! وعادة الطبيعة البشرية غلابة، فأمام القضايا الوجودية المصيرية تصبح أمور العيش ومتطلبات الحياة الكريمة هي مناط الأمر.
لذلك، وبعيدًا عن العاطفة، يجب الاستدراك وعدم توجيه الاتهام واللوم للوالدين على حرصهما على تعليم أبنائهما وبناتهما في المدارس الدولية، لأن الذي يهمهما بالمقام الأول مستقبل الأبناء والخوف من تبعات البطالة لذا سوف يظل همهما الأكبر هو حصول الأبناء والبنات على التعليم المطلوب الذي يمكنهم من الانضمام إلى الجامعات والحصول على الوظائف التي يتطلعون إليها.
وهكذا فنحن هنا: بين صراع العاطفة والعقل! العاطفة تأخذنا إلى الخوف على الهوية، والعقل يجذبنا إلى تحليل تبعات الحرمان من الدراسة بالجامعات وعدم الحصول على الوظيفة لغياب اللغة الإنجليزية. هذا الصراع على المصلحة الخاصة أو الاعتبارات الوطنية يحتاج لوقفة تأمل من أهل الحل والعقد. فرهن القبول والنجاح في الدراسة الجامعية والحصول على الوظيفة، بشرط التمكن من اللغة الإنجليزية بالشكل القائم لدينا حاليًا، وضع له سلبياته المتعددة، منها:
أولاً: قد يحرمنا من بروز كفاءات مبدعة في العمل من أبناء المواطنين غير المقتدرين على تعليم أبنائهم وبناتهم بالمدارس الدولية والخاصة ذات التكلفة العالية.
ثانيًا: قد يؤسس لنظرة سلبية عن الذات بين الأقران ويعزز فيهم الاتجاهات السلبية للإغراق في الشكليات والماديات.
ثالثًا : ونخشى أيضًا أن يؤسس لنمو تفاوت طبقي في المجتمع، فالتصورات والانطباعات السلبية الأولية عن الذات وعن الآخر لدى الأطفال والمراهقين تترك أثرها السلبي المستقر الذي قد يلازم سلوكهم طيلة حياتهم، ويحد من توجهاتهم الإيجابية للتعلم والترقي الاجتماعي، وبالتالي تقبُّل حالة العوز والحاجة كمسلّمات في الحياة.
رابعًا: على المدى البعيد ليس من مصلحة أمن واستقرار بلادنا توسع المساحة بين الغني والفقير، فبلادنا تميزت بتحقيق العدالة والتساوي في فرص التعليم لجميع المواطنين بدون تمييز؛ لذا ليس من مصلحتنا التوسع في المدارس الدولية المكلفة ماديًا، فهذا يضع البذور لإرباك مقومات العلاقة الإنسانية والأخلاقية بين الأجيال.
كل هذه الأمور واردة وقابلة للتحقق بشكل كبير مع دخول وسائط التواصل الاجتماعي التي تربط الأطفال والمراهقين بمن حولهم وبالعالم بدون توفر المرشحات الدينية والتربوية التي تفسر وتشرح لهم حقائق وظروف حياتهم.
نحن نتفهم ضرورة إجادة اللغة الإنجليزية، فهذا أصبح واقعًا مفروضًا وضروريًا في بعض التخصصات العلمية والعملية مثل الطب والهندسة، وهنا قد نتساهل بقبول اشتراط الإنجليزية في الوظيفة والدراسة. لكن في أغلب المهن لا يوجد مبرر عقلي أو ثقافي أو وطني لتشدد القطاع الخاص، أو حتى الهيئات والشركات الحكومية الجديدة، في إدخال الحصول على اللغة الإنجليزية ضمن متطلبات التوظيف.
والذي جعل القطاع الخاص يتساهل في تغليب استخدام اللغة الإنجليزية في تعاملاته المالية والإدارية هو غياب العقوبات. فالغرامات على استخدام اللغة الإنجليزية غير رادعة، ويتم إدراجها ضمن التكلفة لدى شركات الخدمات الاستشارية والمالية والإدارية وغيرها. كما أن حالة التساهل في تطبيق الأنظمة يدعمها ويعززها الإحساس بالنقص الحضاري والاستلاب الثقافي لدى بعض الأجيال العربية المعاصرة، ما أدى إلى توسع استخدام اللغة الإنجليزية في اللقاءات والمؤتمرات والندوات، وأصبح مألوفًا ومحزنًا أن ترى العرب في أوطانهم لا يتحدثون فيما بينهم بلغتهم الأم.
مع الأسف تساهلت الأجهزة الحكومية الرقابية في هذا الموضوع بالرغم من تعارضه مع النظام الأساسي للحكم، والأنظمة الحاكمة لسوق العمل، التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للتعاملات الحكومية والخاصة.
إذًا القناعة مستقرة أن اللغة الإنجليزية ضرورية ولا مفر منها، فالأولى لتحقيق العدالة في فرص التعليم السعي لنشر وتيسير تعلمها بمدارسنا العامة حتى لا تكون عائقًا أمام جميع أبنائنا وبناتنا للترقي الوظيفي والحراك الاجتماعي. متطلبات السلام الاجتماعي داعم قوي لضرورة تطوير تعليم الإنجليزية في المدارس العامة، مع إنشاء برامج التقوية الموازية المجانية.