علي الخزيم
زعموا أن أول إعلان دعائي تجاري هو مضمون قصيدة الشاعر العربي ربيعة بن عامر الدارمي (مسكين الدارمي)، ولُقِّب بالمسكين بعد أن وصف نفسه في إحدى قصائده بأنه مسكين لمن يُنكره، والقصيدة ذائعة الصيت هي التي مطلعها: (قل للمليحة بالخِمَار الأسود)، ومع أن الرواية تقول إن القصيدة كانت السبب الأساس لتمكن تاجر أقمشة بالمدينة المنورة آنذاك من بيع جميع الخُمُر السود (جمع خِمَار) الكاسدة عنده بعد نفاد الخُمُر ذات الألوان المختلفة حين لجأ للشاعر الدارمي ليَنْظِم له شعراً يُصرِّف به بضاعته؛ إلَّا أني أرى أنها ليست أول حالة ترويجية دعائية عند العرب، فلا تُسجَّل كأول حالة، ذلكم أن العرب قبل الإسلام وبعده قد وظَّفوا الشعر والقصيد للإعلان - قبل تجارتهم - عن أمجادهم وإنجازاتهم وتاريخهم العريق وبطولاتهم وفروسيتهم وفرسانهم، حتى إنه ورد أن خيولاً وسيوفاً، بل وجمالاً نادرة تم إعلاء شأنها بوسيلة الإعلان والإشهار الأفضل بوقتهم وهو الشِّعر، وهذا يبرهن على ما للشعر والشعراء العرب من قيمة أدبية اجتماعية وأخلاقية وحتى تجارية، وأزيد بأن فاتنات عربيات جمالاً وأدباً لم يُشهرهن بجزيرة العرب وما حولها سوى الشعر الجيّد الدقيق معنىً ووصفاً وقافية، ومَرَدُّ ذلكم إلى أن الشعر كان - وما زال - يحظى بقبول اجتماعي عربي وله تأثيره السريع اللطيف على وجدان العربي لقناعته المتأصلة بأن أشعار العرب الراقية تحمل بطياتها الصدق وغزير التجارب الإنسانية وجزل الحِكَم، فكان لتوظيف الشعر بتلك المسالك مساهمة فاعلة لتشكيل كثير من المفاهيم الاجتماعية والارتقاء بالشّيم والأخلاق الحميدة التي يعتز بها كل عربي.
والقصة تشير إلى ولَع النساء القديم بالملابس الزاهية ودأبهن على متابعة كل جديد فيما يُسمَّى الآن بالموضة، كما تبرهن قصتها المَحكيَّة على أن النساء سريعات الاقتناع والانجذاب إلى كل ما يرمز للأنوثة والجمال والتنافس فيه بقدر المستطاع، بل إن قصص الأفراح والمناسبات السعيدة بزمننا تحكي أكثر من هذا التنافس الذي وصل حدود التَّحدي مهما كلَّف الثمن حتى لو بالقروض والاستدانة للظهور بأجمل وأندر وأفضل الملبوسات والمجوهرات والتسريحات واللمسات التجميلية بأنواعها، ويُشار إلى محدودات الدَّخل أو من لا دخل مادياً لهن بأن القنوعة منهن تكتفي بالتفرج، وأخريات - كما يُقال - يتفرَّغن للنقد وإلقاء الأحكام التفضيلية على هذه أو تلك فيما يرتدين أو يظهرن به من مظاهر (التَّجمُّل)؛ والمؤكد أن الغانية بجمالها لا تحتاج للبحث عن مظهر مُبالغ به.
ويُستَقَى من القصة أن النساء العربيات كُنَّ يلبسن ويختمِرن بكافة الألوان دون تخصيص لون بعينه؛ على أن يكون مناسباً لجسمها وعمرها ومتناسقاً مع بقية الملابس، وأن اللون الأسود انتشر بعقود لاحقة لزمن هذه القصة، فقد بدأ لبس السواد ببلاد مجاورة لجزيرة العرب وتأثرت به بعض البلدان نتيجة مشاعر مُفتعلة بالحزن على فقد شخصيات يزعم مروّجوها أنها تمثِّل لهم انتماءً دينياً واجتماعياً، وتدَّعي تلك الجماعات الطائفية المظلومية لتلك الشخصيات وأنها تلبس السواد حزناً عليها، ودعوا النساء للبس الخُمُر والثياب السوداء تكريساً لتلك المزاعم في إطار من التوجّه الطائفي الممقوت، وما زالت نساء يقلدنهم بحسن نيَّة.