حسن اليمني
ما هي الإمبريالية ولماذا ومتى ظهرت وهل انتهت وما علاقتها بالاستعمار؟ ثم ما هي أهمية بحثها الآن وهل ما يشهده العالم وعالمنا العربي والإسلامي على وجه أخص ناتج عن هيمنة وسطوة ورسوخ هذا الجين الشيطاني في النفس البشرية؟
كان لابد من طرح مفهوم هذا المصطلح للبحث والقراءة «إمبريال» (imperium) وهي كلمة لاتينية تعني القوة العليا أو السيادة وبسط الحكم، وظهرت بداية من بريطانيا في القرن التاسع عشر الميلادي، أو هكذا يرى مؤرخو الفكر والثقافة في العصر الحديث في حين أرى أنه موجود منذ الأزل وعلى مر تاريخ البشرية، بل إنه وفي حين يراه أولئك المفكرون والمثقفون والسياسيون نظرية حديثة فإني أرجعه إلى غريزة الأنانية في الإنسان والحيوان وحتى النبات، هو بالمعنى الفعلي استخدام القوة أو الحيلة في السطو على الآخر وسلب حقه لخدمة صاحب القوة، أي جريمة سطو مسلح بصريح العبارة، وأي تجميل وتلطيف وترقية في التعاريف والمصطلحات إنما يعد من باب التصنع والتجميل وبمعنى آخر «برغماتية» من باب تشريع الخطيئة وتحليل حرمتها.
لن أتبع طريقة البحث العلمي الحديث في قراءة الفعل الإمبريالي أو أنقل آراء وأفكار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين في قراءتهم أو تعريفهم أو رغبتهم في تشريعه من خلال فهمه وإفهامه كنظرية أو فلسفة فكرية تم اختراعها، هي باختصار استخدام القوة لسلب ما لديك أي القهر للقوي على الضعيف، وهذا يحدث منذ فجر التاريخ فقابيل ذبح هابيل نتيجة طمع وحقد سوّغ له الفعل مثلما اخترع وسوغ بوش الصغير أسلحة الدمار الشامل لاحتلال العراق، هي هذه الإمبريالية في عمق وجذر معناها وفعله ولا حاجة لتلطيف وتجميل.
إن الفعل الإمبريالي منبسط على الفرد كما هو على الدول والإمبراطوريات كفعل طبيعي لإشباع الرغبة سواء بالضرورة والحاجة أو الحقد والحسد، لا تستطيع فهم عقل زعيم يحكم جزءاً من كرة الأرض بما فيها من بشر وحيوان ونبات وكنوز وثروات وسمع وطاعة ووفرة وغنى ثم يجهز جيشاً لغزو شعب آخر فقط لأنه يرى أنه قادر على ذلك، فعل خاطئ يمارسه بعض الأفراد من الناس ضد بعضهم ويوصف الفعل بالجريمة والفاعل بالمجرم، وذات الفعل حين يمارسه حاكم فإنه أي الحاكم يختفي خلف الدولة أو الإمبراطورية ليصبح الفعل منبسطاً على الشعب أو الأمة كلها ويصبح الفعل مسوّغاً حتى فيما بين أفراده وجماعاته، وهنا قمّة الخطورة حين تصبح أمة أو شعوب من البشر تختزن ثقافة التعالي للسيطرة والاستحواذ على الآخرين، إلى درجة أن يصبح القياس في الصواب والخطأ مستنداً على نزعتهم العدوانية وطمعهم الأناني، وهذا نراه ونشاهده كثيراً في عصرنا الحاضر ولعل أقرب مثال يوضحه البيان الأمريكي والبريطاني حول هجوم قوات الاحتلال في فلسطين على غزة حين ابتدأ البيان بتأكيد الوقوف مع الكيان الصهيوني ضد فلسطين ثم لطّف القول بضرورة خفض التصعيد من كلا الجانبين.
من الصعب أثناء تصفح التاريخ أن تجد أمة من الأمم لم تمارس هذا الفعل، بما في ذلك العرب والمسلمون، فهذه هي طبيعة الصراع بين البشر على الأرض مثلما هي طبيعة الصراع بين الحيوان في الصحاري والغابات، وحين تجمع الإنسان والحيوان في فعل طبيعي فإنك لابد باحث عن العقل والوازع، تجيز الفعل للحيوان ولكن لا تستطيع إجازته للإنسان الذي يملك العقل والفكر والحيلة والوازع والرادع، ثم إنك حين تصل إلى هذا الاقتناع ستبحث في عمق الدافع وأسبابه ومبرراته لدى الإنسان، وهكذا إلى أن تصل إلى فحص الفعل وقياس درجة قوته ومدى أثره، حينها ستجد نفسك أمام تفكيك دافع هذا الفعل وبحث عمقه وجذوره من خلال نتائجه، ساعتئذٍ لن تحتاج لقراءة أو بحث بقدر ما سترتد لنفسك تتساءل عن المحرك لهذا الدافع ومدى قدرته على ضبط الفعل بما يوازي قوة الوازع في النفس الذي حركها للفعل وضبط هذه الحركة.
لا شك أن الوازع هو العقيدة الإيمانية لهذه النفس وليس شرطاً أن تكون دينية، وهي في كل الأحوال بين جانبين، خير أو شر ولا شيء آخر، وفي كل الأحوال فإن صراع الأمم يأخذ عنوان العقائد شعاراً له لكن درجة ومدى الإيمان بهذه العقائد مختلف بين الأمم، هذا الاختلاف يشعل هو الآخر صراعاً في ذات الأمة بين مستويات ودرجات إيمانها بالعقيدة الواحدة، مثال ذلك الصراع بين الأرثوذكس والكاثوليك أو السنّة والشيعة وهكذا، حتى إن الصراع يدخل داخل هذه التفرعات فيما بينها أيضاً، ويستمر إلى أن يصل الرأي والفكرة بين فردين ربما يكونا أخوين من أم وأب دون أن يخرجا من وازع العقيدة للحقيقة في كونه أنانية وحسداً وطمعاً وغيرة.
حين أتحدث بفكر في إطار محيط إيماني وعقيدتي فسأكون كمن يتحدث مع نفسه، لذلك سأقول إن تمدد دولة المدينة المنورة باتجاه العراق والشام لطرد الفرس والروم يأخذ نفس الصفة للفعل بمفهوم عام مثله مثل احتلال بريطانيا للهند أو مصر وحتى احتلال عصابات يهودية من شرق أوروبا وروسيا لفلسطين، الفعل واحد لكن الدوافع مختلفة والوازع متشابه وإن تأرجحت درجة نوعيته جودةً أو رداءةً، لكن المنصف في قراءة وبحث عمق هذه الصراعات وقياسها وتقييمها على نتائجها سيجد أن المدينة المنورة بتمددها إلى العراق والشام ثم ما وراء ذلك حتى وصلت أوروبا وشرق آسيا وأواسط إفريقيا إنما أسست للعالم ديناً حُظِيَ بالقبول والاعتناق، ما يعني أن الفعل يأخذ صفة الخير بدليل نتائجه التي نشاهدها اليوم ليس في البقاء عبر هذه الحقب من القرون بل في اتساعه وسرعة انتشاره في عصر أصبح مفعولاً به ومحكوماً من قوى أخرى، ومع هذا لا زال جاذباً ويجذب اتباع معتقدات سماوية ووثنية في كل يوم، في حين إنها أي تلك المعتقدات الأخرى تتضاءل وتتلاشى برغم ما يملك محيطها من قوة وتصدر على مستوى العالم اليوم، هذا الأمر تدركه بعض مراكز الدراسات والبحوث المتخصصة في الجانب الآخر غير الإسلامي، وهي بالتأكيد حين تلتزم الدراسة والبحث العلمي العادل ستكون أكثر إقناعاً من أي فهم يصدر من داخل الصندوق نفسه، لذا حين أتحدث بفكر في إطار محيط إيماني وعقيدتي فسأكون كمن يتحدث مع نفسه، لذلك لا أجد حاجة لشرح أو مقارنة.
اعتباراً من القرن الثامن عشر الميلادي ظهرت اليابان وأوروبا بما فيه روسيا كقوى إمبريالية تتمدد وتتوسع للسيطرة والاستحواذ على مقدرات الأمم الأخرى، لكن الأمر لم يستمر طويلاً فعادت اليابان إلى جزرها في حدود ضيقة لا تتجاوزها كما أن أوروبا صارت دويلات بذات المثل في حين تضخّمت روسيا بتمددها واحتلالها لأقاليم الدولة العثمانية من خلال سياسة الإبادة الجماعية والطرد وساعد في نجاح ذلك وجود الحاضنة للهاربين واللاجئين، وفي المقابل أيضاً احتفظ الأنجلوسكسون بقارتي أستراليا وأمريكا الشمالية بعد إبادة سكانها الأصليين بمعنى أن هذا البقاء لم يكن نتيجة وازع خير في الفعل بقدر ما كان نتيجة قوة عنف الفعل الذي وصل حد الإبادة والإفناء تماماً، أي أنه عمل سطو مسلح قتل مالك الأرض وسلبها لنفسه، قد لا يتقبل كثيرون مثل هذا الفهم لبشاعته وقبحه إن بدافع الاستحياء من الفعل أو بدافع تجاوز الحقيقة لأسباب، هذه الأسباب هي بذاتها أيضا جزء من قباحة وشناعة الفعل ذاته وتبرير وحماية له ولاستمراره للبعض، وهلع وذل وخوف من البعض الآخر، الأنجلوسكسون هم الذين لا زالوا مستمرين بالفعل الإمبريالي على مستوى العالم بحكم القوة والقدرة.
الجيبولتيكا الروسية والتي انطلقت من خلال أوكرانيا هي أيضاً انطلاقة فعل إمبريالي وكما يسمونه «التيلوكراتيا» مقابل «التالاسكراتيا» كمصطلحات تعني قراصنة البر مقابل قراصنة البحر وكأنما يعرفون الفعل بمعناه الصحيح وهو القرصنة أي السلب والسطو، قوتان تتصارعان على السطو المسلح لسلب الأمم الأخرى والسيطرة عليها.
حين تكون الدولة قوة إمبريالية بالوازع الأناني ودافع الاستحواذ بالسيطرة والتحكم فإن الفعل يتساوى مع الفعل الحيواني غير المحكوم بعقل، وحين يكون الوازع بهذه النوعية في رأس الدولة فلابد أن لها تقليدها أيضاً بين بعض أفراد شعبها بحسب درجة الوازع الأناني للأخذ والاستحواذ ومدى اتساعه في المجتمع، والذي قد يصل إلى حد فرط الانفعال لدرجة بلوغ جريمة القتل من أجل القتل كفعل إرهابي كما تطالعنا به وسائل إعلامهم بين فترة وأخرى، وإن تعالوا عن وصمه بالإرهاب باعتباره وصماً مخصصاً للمسلمين بعكس ما هو مألوف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية الذي نادراً ونادراً جداً أن تحدث فيه جرائم إرهابية بقتل حشد من البشر لمجرد القتل كفعل إرهابي عدواني، ولا يعود ذلك لأنظمة أو قوانين أو تشريعات أو طغيان سلطة في الغالب والأعم وإنما لوازع ديني يحكم الأخلاق والسلوك، وهو ذاته ما يحكم الجيوش الإسلامية في خروجها من المدينة المنورة لنشر الإسلام وتأمين دولة الإسلام دون إكراه أو إرهاب ولا أغراض إمبريالية، بل بقواعد وأحكام ضابطة لميزان العدل والحقوق والمساواة جذبت ببريقها أمماً مختلفة الألسن والألوان والقناعات لتدخل في دين الله وتتوارث التمسك به جيلاً إثر جيل دون أن يؤثر فيه تبدل العصور بضعف أو انسلاخ، مجسدين بذلك خلو الحضارة الإسلامية من الغايات الإمبريالية في منهج الأخلاق والسلوك الفردي والجمعي كأمة أو دولة.