اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لقد كان قدر المملكة أن يكون موقعها على درجة كبيرة من الأهمية الاستراتيجية، وأن تكون أرضها مهبطاً للوحي ومهداً للرسالة المحمدية، ومحضناً للحرمين الشريفين، وما يعنيه هذا الاحتضان من أنها بقدر ما تمثل القبلة التي تتجه إليها أنظار المسلمين في صلواتهم ويقصدونها للحج والعمرة والزيارة بقدر ما تمثل لهم المرجعية الدينية، ويرون فيها المثل والقدوة لحماية الدين والمقدسات والدفاع عن المبادئ والقيم الإنسانية والأعراف والآداب المرعية.
وعلاوة على أهمية الموقع والأهمية الدينية فإن أرض المملكة تحتوي على أهم مصادر الطاقة من النفط والغاز حيث إن النفط لايزال يشكل عصب الطاقة نظراً لما أحدثه اكتشافه من ثورة هائلة في نوعية الآلة وحجمها وقدراتها، واعتباره أهمَّ ضامن لاستمرار هذه الآلة وتشغيلها، وما يرتبط بها من وسائل القوة في الحرب وعوامل الرخاء في السلم.
وإلى جانب ما كان للقدَر دور في صنعه من مزايا ومكتسبات ونجم عنه من أعباء ومسؤوليات فإن المملكة صنعت لنفسها قدْراً عظيماً ورسمت لها طريقاً مستقيماً، بفضل مكانتها الدينية وموقعها الجغرافي وموروثها الثقافي والتاريخي ومركزها الاقتصادي وثقلها السياسي ووزنها القيادي على المستوى العربي والإسلامي والعالمي، وما تحظى به من خدمة الحرمين الشريفين، وتتحمله من مسؤولية تجاه الآخرين في جميع المجالات ذات العلاقة وبالتحديد مجال الطاقة.
وبين معطيات القدَر وموجبات القدْر تنعم المملكة بنعم ربانية بوأتها المكانة التي تستحقها، مدركة ما عليها من أعباء ومسؤوليات وما يواجهها من مخاطر وتحديات بفضل قيادتها الحكيمة التي لم تترك طريقاً إلا طرقته في سبيل مكافحة الفساد وتوفير الأمن للبلاد وتحقيق المراد، والوصول إلى كل ما يتطلع إليه شعبها من الاستقرار والازدهار والاستمرار.
وقيادة المملكة تعلم علم اليقين أن المصلحة المشتركة بين الدول هي المحور الذي تتمحور حوله العلاقات المتبادلة وعلى ضوء هذه العلاقات يمكن ترتيب الأسبقيات بالنسبة للصداقة والعداوة حيث لم يعد تقسيم العالم مقصوراً على الجنس أو الوطن أو الدين، بل أصبح التقسيم يتجاوز ذلك إلى المصالح المشتركة ومتطلبات الحياة المعاصرة.
ومتطلبات الحياة تؤكد على أن الانتماء إلى هذا العصر يعني الأخذ بناصية العلوم والمعارف والتكنولوجيا والصناعة وعلوم الفضاء وإجادة استخدام الشبكة العنكبوتية والتعامل مع العالم الرقمي مع التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ومواكبة العصر، وما يتطلبه هذا الأمر من الانفتاح على العالم عن طريق العلاقات الثنائية إلى ما يعرف بالشراكة الاستراتيجية والأحلاف والتكتلات.
وعلى هذا الأساس فإننا إذا ما رجعنا بالذاكرة إلى ما قبل ثمانية عقود خلت اتضح لنا أن الملك عبد العزيز قد أدرك في وقت مبكر أن العصر يتجه نحو الاتفاقيات الثنائية والتكتلات الجماعية التي تساعد على توفير الأمن وتخدم المصلحة المشتركة من خلال التعاون المتبادل بين الدول من أجل الوصول إلى هدف مشترك ومصلحة جامعة دون أن يكون ذلك على حساب سيادة الدول وإرادة الشعوب ومعتقداتها الدينية والقيم والمبادئ التي تعتنقها هذه الشعوب.
وبالطبع فإن نتيجة هذا الإدراك العميق وهذه النظرة البعيدة تمثلت في اجتماع الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن البارجة الأمريكية (كوينسي) والاتفاق على تطوير العلاقة القائمة إلى شراكة استراتيجية ذات رؤية جديدة وأبعاد بعيدة تخدم المصالح العليا والأهداف الوطنية للطرفين وتعزز الأمن والاستقرار في المنطقة.
وهذا الاتفاق ترتب عليه قيام علاقة قوية بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية استمرت عقوداً زمنية نتيجة لتمسك طرفي الاتفاق بالأسس المتفق عليها في بيئة يسودها التكافؤ في التعامل والاحترام المتبادل بعيداً عن التدخل في الشؤون الداخلية لأي طرف أو اتخاذ حاجته وسيلة لاستغلاله أو إذلاله.
وعلاوة على ذلك فإن هذه الشراكة تشكل حجر الزاوية للأمن الإقليمي، بوصفها بمثابة حلقة وصل تربط بين دول المنطقة ودول العالم عبر الدعوة إلى الخير والصفاء ومحاربة الشر ودواعي الجفاء بفضل العلاقات المؤثرة والجهود الخيرة.
والواقع أن المملكة حافظت على ثبات موقفها وحسن تصرفها تجاه هذه الشراكة طيلة العقود الماضية رغم تجاوزات وأخطاء الطرف الآخر التي تقف خلفها الحركة الصهيونية وتعمل على إثارتها المواقف الانتخابية ودعاة الديمقراطية الليبرالية ذات الأهداف الاستعمارية.
والمملكة ذات سياسة منفتحة على الجميع، حيث إنه منذ أن أطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رؤيتها وكشف عن وجه نهضتها وأعلن على الملأ كلمتها وهي محط أنظار العالم وتعاظم ثقلها السياسي ومركزها الاقتصادي ووزنها القيادي حتى أصبح يشار إليها بالبنان على المستوى الدولي، بوصفها تعتبر رقماً محسوباً في المعادلة الدولية ومحاوراً بارزاً يتحلى بالصراحة والواقعية والندية عند مخاطبة الآخرين، وعاملاً مؤثراً لكل ما له علاقة بالسياسة والأمن والطاقة والتكنولوجيا وغيرها.
وتأسيساً على ذلك تحولت المملكة إلى ورشة عمل على الصعيد الداخلي والخارجي حيث تستضيف القمم المؤثرة، وتعقد فيها المؤتمرات والمنتديات التي تدرس وتناقش مختلف المجالات الحيوية وشتى الاهتمامات الفكرية مما يدل على أن المملكة ليست قبلة للمسلمين فحسب بل أصبحت قبلة عالمية بفضل النهضة الشاملة والسياسة المعتدلة وما تتمتع به من الأمن والاستقرار.