عبدالرحمن الحبيب
على النقيض من العدد الصغير لبرامج الزمالة شديدة التنافسية من الدرجة الأولى عالميا التي ترعاها وزارة الخارجية الأمريكية، تقدم الصين آلاف المنح الدراسية لتغطية تكلفة الشهادات وبرامج التدريب للنخب والشباب الأفارقة. هذا ما ذكرته الدكتورة ماريا ريبنيكوفا التي كتبت: في بحثي حول القوة الناعمة الصينية في إثيوبيا وكذلك في المقابلات التي أجريتها مع النخب الإفريقية التي تدرس وتحضر التدريبات المهنية في بكين، وجدت تقديراً عاماً لأدوات القوة الناعمة الصينية، مثل الفرص التعليمية؛ موضحة أنهم قد يفضلون الدراسة في أمريكا لكن «من الأفضل رؤية الصين بدلاً من البقاء في المنزل وعدم رؤية أي شيء» كما أخبرني أحد العاملين في مجال الإعلام الإثيوبي في أديس أبابا خلال زيارتي عام 2019..
تناول المقال السابق المنافسة بين أمريكا والصين في القوة الناعمة، والفرق الكبير في تفسير هذا المفهوم بينهما، إذ تضع واشنطن القيم والمثل الديمقراطية في صميم ترويجها للقوة الناعمة، بينما تركز الصين على الأمور العملية بدمج جاذبيتها الثقافية والتجارية، مركزة على ممارسة البراغماتية (النفعية) أكثر من التركيز على القيم.. المحللون الصينيون ينتقدون المفهوم الأمريكي الذي يفصل بين القوة الصلبة (عسكرية، اقتصادية) والناعمة (اجتماعية، ثقافية، فنية...) على أساس أن أي عنصر يحسن صورة البلد يعد من عناصر القوة الناعمة حتى لو كان من القوة الصلبة.
فماذا عن تقدير وتقييم هذ القوة الناعمة واستطلاعات الرأي العام لبعض دول العالم بالغرب وبالجنوب العالمي خاصة إفريقيا وأمريكا اللاتينية.. هذا ما قامت به ريبنيكوفا أستاذة الاتصالات بجامعة ولاية جورجيا ومؤلفة كتاب القوة الصينية الناعمة، في عمل لها بمجلة فورين أفيرز الذي نكمل استعراضه هنا.
من المنظور الغربي تبدو الصين تعوض نقص قوتها الناعمة الفكرية بالإغراءات المادية، وبالتالي لا تمارس فعلاً القوة الناعمة على الإطلاق ولكنها تستخدم قوتها الاقتصادية لإغراء الناس، إلا أن ذلك يعزز القوة الناعمة للصين من خلال تعزيز صورة الدولة باعتبارها حصنًا للكرم والفرص والكفاءة والبراغماتية كما تقول الباحثة. في الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات الصناعية الغربية، كان للقوة الناعمة الصينية تأثير ضئيل، حسب الباحثة التي ترى أن ذلك يرجع جزئيًا للارتباطات السلبية الموجودة مسبقًا للصين مع الشيوعية والسلطوية، إضافة إلى صعود ما يُعرف بدبلوماسية «وولف المحارب» (أسلوب عدائي للدبلوماسية)، وحتى استخدام خطاب فظ لمهاجمة منتقدي الصين، وخاصة في الغرب.
على العكس من ذلك، حقق نهج الصين الأكثر واقعية تجاه القوة الناعمة، مزيدًا من النجاح في الجنوب العالمي، بما في ذلك إفريقيا وأمريكا اللاتينية.. حيث أظهرت استطلاعات الرأي العام في إفريقيا شعورًا إيجابيًا إلى حد كبير تجاه التأثير الاقتصادي والسياسي للصين على القارة. اعتبر ما يقرب من ثلثي الأفارقة الذين شملهم الاستطلاع في 34 دولة أن تأثير الصين «إيجابي إلى حد ما» أو «إيجابي للغاية». وفي استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك في عام 2019، أفاد حوالي نصف المستجيبين بأن لديهم صورة إيجابية عن الصين؛ بينما أعرب حوالي الربع فقط عن آراء سلبية. كما وجدت الباحثة أنه في أماكن مثل إثيوبيا، تميل القوة الناعمة الصينية إلى الظهور من خلال مشاريع البنية التحتية، مثل السكك الحديدية والجسور والطرق السريعة. العديد من هذه المشاريع مثيرة للجدل بسبب القروض المرهقة، والنزاعات حول العمل، والمخاوف بشأن الجودة والسلامة؛ ومع ذلك، فإنها ترفع من مكانة الصين.
ماذا عن مستقبل المنافسة؟ ترى الباحثة أن الولايات المتحدة والصين ستواجهان تحديات مميزة في تعزيز القوة الناعمة. يخضع نهج واشنطن للاختبار بسبب تناقض تأكيد الدولة على القيم الديمقراطية والتزامها غير المتسق بها. كما أن التوترات الداخلية وتناقص الديمقراطية وتفشي التمييز العنصري في الداخل يقلل من صورة الولايات المتحدة كديمقراطية ملهمة. أما بالنسبة نهج القوة الناعمة البراجماتية في الصين فهو يخاطر بالانهيار إلى مجرد معاملات ذات فوائد مادية مباشرة.. تقول الباحثة: عندما سألت مسؤولي الجامعة الإثيوبية عما يمكن أن يحدث للمعاهد الصينية في البلاد إذا لم تؤد الدراسة فيها إلى وظائف في الشركات الصينية، كان ردهم واضحًا ومقتضبًا: «سنغلقها».
وتخلص الباحثة إلى أن الصينيين بدؤوا ممارسة القوة الناعمة متأخرين بعقود عن أمريكا، لكن ذلك قد يعمل لصالح الصين لكي تتجنب التناقضات والنفاق في القوة الناعمة للولايات المتحدة، إذا تم إدارتها بشكل صحيح، فرؤية الصين البراجماتية الأقل سامية للقوة الناعمة قد تتجنب هذه المشكلة، إذا تمكنت أن تظل «ناعمة». المحصلة، أنه على الرغم من الاعتقاد السائد في واشنطن وبكين بأن البلدين منخرطان في منافسة على القوة الناعمة، فإن الواقع يبدو أشبه بتعايش القوى الناعمة. إذ لا يعتمد نجاحهما في جعل صورتهما أكثر جاذبية على التفوق على بعضهم البعض بقدر ما يعتمد على التغلب على الاحتكاكات الداخلية الخاصة بهما. ونظرًا لأن كل دولة تحاول تحسين جاذبيتها وتقليل جاذبية الآخر، فقد أصبح الكثير من العالم أقل اهتمامًا بمسألة ما إذا كان النموذج الأمريكي أو الصيني هو الأكثر جاذبية بشكل عام وأكثر اهتمامًا بما يقدمه كل بلد.