خالد بن حمد المالك
مات جار الله الحميد، الحائلي النابه منذ طفولته ذلك الذي كان يغرف من بحر الثقافة بما لم يفعله جيله، في ظاهرة لا تتكرر إلا في عدد محدود من الموهوبين، وكان هذا الجار الله جارها الذي لا يجد ما يشغله عنها.
* *
كان منصرفًا للثقافة، بكل أطيافها وألوانها، بتعددها، وتنوّع تخصصاتها، متوهجًا في كل فن من فنونها، مع أن مظهره لا يظهر ما يكتنزه مخبره، ولا يكتشف ما يختزنه عقله وفكره من أدب رفيع.
* *
مات جار الله الحميد، بعد مرض، واكتئاب، واعتزال عن مجتمعه، وانصراف عن الكتابة والتأليف، منزويًا في بيته، ترعاه وتهتم به زوجة عظيمة، وبنات بارات، ومحاولات من محبين فشلت في أن تخرجه من عزلته.
* *
ومهما كتب عن المرحوم جار الله الحميد، فسيظل قاصرًا أمام ما كتبه محمد عبدالكريم السيف في مرثيته بالفقيد، فقد جاءت كلمته وكأنه كان لصيقًا به منذ طفولته وإلى أن مات، فخبر خفاياه، ومواهبه، وسلوكه، وتميزه، ونجابته، واهتمامه، واختلافاته عن أقرانه.
* *
لكن السيف ترك مساحة كبيرة لمن سيكتب عن الأديب جار الله الحميد، وفتح نوافذ كثيرة للاستدلال على هذه الشخصية المبهرة، قائلاً ما لا يعرفه الآخرون عنه، ومتحدثًا عمَّا يجب أن يُقال عن الفقيد.
* *
عاش الحميد حياته دون أن تتوفر له مقومات الحياة المادية كما هي لدى غيره من الزملاء، ولم تشفع له كتبه وأشعاره ورواياته وقصصه في وضعه على سكة الطريق لتحقيق ما يوفر له حياة ينعم بها في تحقيق ما يريد، وهكذا هم أغلب المبدعين والموهوبين والمثقفين، إذ لم يكن فقيدنا استثناء بين هؤلاء.
* *
لقد دعوته للكتابة بـ«الجزيرة»، لثقتي بأن قلمه يضيف إلى نجاحات صحيفة الجزيرة، وأن اسمه يمنحها المزيد من التفوق، وأن وجوده يشجع غيره من البارزين لاقتفاء أثره بالكتابة لـ«الجزيرة»، وككل فنان مبهر كان علي أن أراعي نفسيته وظروفه، وأتسامح مع براءته ومزاجه.
* *
وكنت أقدر فيه نظافته في التعامل، وصدقه في كل ما يصدر عنه، واحترامه لما يكتبه، دون أي تنازل عن قناعاته وتوجهاته، بشكل جعل من كتاباته وأشعاره وقصصه موضع تقدير لكل من يعرف جارالله الحميد أو لا يعرفه.
* *
فقد كان ذا أسلوب مشوّق، وعبارة منتقاة، وفكر جاذب، وموضوعات مثيرة، وقد أفادته ثقافته الواسعة في تأصيل فكره، وتأثيره على قرائه، وانجذاب الكثيرين إلى متابعة ما يكتبه سواء في «الجزيرة» أو في الصحف الأخرى، بل وحتى في الصحف غير السعودية.
* *
كل ما أتمناه، أن يكرَّم الراحل بتسمية شارع باسمه في حائل، تذكيراً وتخليداً لاسم لامع من هذه المنطقة، وهذه لن تعجز سمو أمير المنطقة عن تحقيقها لابن متميز من أبناء منطقة حائل، كما أتمنى من النادي الأدبي في حائل أن يعيد طباعة كتب المرحوم، ويقيم ندوات ومحاضرات لدراسة أدبه تأصيلاً لها، وتوسيعاً لأفقها في الانتشار.
* *
رحم الله جار الله الحميد، وعزاؤنا لزوجته وبناته، وأسرته عموماً، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.